الامامة الالهية(5) المجلد 5

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، - 1340

عنوان و نام پديدآور : الامامه الالهیه/ محاضرات محمد سند؛ جمع و اعداد محمدعلی بحرالعلوم

مشخصات نشر : تهران : فرصاد ، - 1385.

مشخصات ظاهری : ج 3

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرست نویسی براساس اطلاعات فیپا

یادداشت : کتابنامه

موضوع : امامت

موضوع : ولایت

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : بحرالعلوم، محمدعلی، 1345 - مقرر

رده بندی کنگره : BP223/س9الف8 1385

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 81-28236

الامامة الالهية (5)

مقدمة المقرر … ص: 5

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ علي محمدٍ وآل محمد، عدد ما في علمك، صلاة دائمة بدوام ملكك، وأسألك اللهم أن تبصرنا معرفة وليك لنبتغي إليك به الوسيلة في نجح آمالنا وتحقيق مطالبنا، فإنه لا ينال عرفانك إلا به، ولا يقضي أمرك إلا بوصله..

ما هي الوسيلة؟

قال الراغب الأصفهاني:

الوسيلة: التوصل إلي الشي برغبة، وهي أخص من الوصيلة «1».

وقال ابن الأثير:

في الأصل: ما يتوصل به إلي الشي ويتقرب، وجمعها وسائل «2».

وعلي ضوء المعني اللغوي يتبلور المعني الاصطلاحي للفظ الوسيلة وهو:

الوصلة التي يتوصل بها إلي معرفة اللَّه وقربه وطاعته ومحبته، ولما كان الأولياء المصطفون هم الوجه الوجيه عند اللَّه تعالي والحبل الممدود بين السماء والأرض، طرف منه غيبي بيد اللَّه تعالي، وطرفه الآخر مادي عيني بيد الخلق؛ يكونوا بذلك

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 6

أقوي وأدل وأنجح وأقرب وأسمي الوسائل الدالة علي اللَّه تعالي، وأوسع الأبواب الموصلة إلي نيل عرفانه والاحتظاء بمرضاته تعالي.

ولقد دعانا القرآن الكريم وبصورة مؤكدة بينة إلي ابتغاء الوسيلة واتخاذ الوصلة إليه تعالي، مرة بلفظ الوسيلة كما في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1»

، وأخري بالحث علي التلبس بواقع التوسل كما في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ

تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2»

.وقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «3»

.وتشير الآية الأخيرة إلي ضرورة اجتماع وترافق وسائل دينية عديدة من أجل تأهل الأعمال الصادرة من العبد للصعود إلي اللَّه تعالي، وأول تلك الوسائل هي الحضور طوعانية عند الحضرة النبوية المعظمة، وثانيها الاستغفار والتوبة والرجوع الذاتي من قبل العبد، وثالثها توجه الرسول صلي الله عليه و آله بالدعاء والاستغفار والطلب والتوسط للعبد لأجل أن ينال الحظوة عند اللَّه تعالي.

ويهدف اجتماع هذه الوسائل- عمل العبد وحضوره عند الرسول صلي الله عليه و آله وتوجه الرسول صلي الله عليه و آله إلي اللَّه- إلي فتح الطريق أمام العبد ومضاعفة خطواته وطي مسيره في الصعود إلي القرب الإلهي.

وعند هذه النقطة نشير إلي هذا السؤال:

لماذا أقر اللَّه تعالي وأوجب في القرآن الكريم التعلق بالوسائل، وأمر العبد بابتغائها

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 7

واتخاذها في التقرب والتصاعد والعروج والتكامل الروحي، وقضاء الحاجات ونيل المطالب؟

الجواب:

إن إلزام المشرع الإلهي الخلق بابتغاء الوسائل إليه تفرضه ضرورات عديدة:

الضرورة الأولي: دونية العبد … ص: 7

مما لا شك فيه إن الوجود الإنساني- علي ما فيه من مزايا تكوينية فطرية- وجود دوني سفلي لحلول تلك المزايا الروحية في تكوين الإنسان المادي الخلقي.

وقد أشار أهل المعني إلي أن الجانب المعنوي في الإنسان رهين بقيود البدن الغليظة، مما يثقل ويشق علي الروح تصاعدها إلي عالم المعني لنيل كل زلفي وحظوة إلهية، وقد شبهوا أسر الروح في قفص البدن بأسر الطائر الذي يحمل في أصل وجوده القدرة علي التحليق والطيران في القفص المادي.

وقد دلت الروايات علي هذه الدونية الخلقية التي ولَّدت موانع للإنسان في طيه للطريق المعنوي، منها: ما

في البحار عن السيوطي في الدر المنثور: عن ابن عباس قال: «خلق اللَّه آدم من أديم الأرض يوم الجمعة بعد العصر، فسماه آدم، ثم عهد إليه فنسي، فسماه الإنسان.

قال ابن عباس: فباللَّه ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتي أهبط من الجنة.

قال: وإنما سميت المرأة امرأة لأنها خلقت من المرء، وسميت حواء لأنها أم كل حي» «1»

.وأما عن أبي بصير قال: سأل طاووس اليماني أبا جعفر عليه السلام: لم سمي آدمُ آدمَ عليه السلام

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 8

قال: «لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلي» «1».

فتشير الروايات إلي العقبات التي طرأت علي الروح الإنسانية بسبب تركبها في البدن المادي، مما يضطر الإنسان إلي التعلق بالوسائل التي تقوم بوظيفة الارتقاء والتسامي به عن الهبوط، والتسافل الذي يقتضيه البدن المادي.

الضرورة الثانية: دونية العالم الدنيوي … ص: 8

وينبه علي هذه الحقيقة روايات عديدة، منها ما في جواب أمير المؤمنين عليه السلام عن سؤال اليهودي: «وإنما سميت الدنيا دنيا لأنها أدني من كل شي ء» «2»

.ومنها جواب النبي صلي الله عليه و آله عما سأله يزيد بن سلام، حيث سأل لم سميت الدنيا؟

فقال عليه السلام: «لأن الدنيا دنية خلقت من دون الآخرة، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفني أهل الآخرة».

قال: فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة؟ قال: «لأنها متأخرة، تجي من بعد الدنيا، لا توصف سنينها، ولا تحصي أيامها، ولا يموت سكانها» «3».

قال المجلسي بيان:

قوله في الخبر الأول «لأنها أدني من كل شي ء» أي أقرب بحسب المكان أو بحسب الزمان، أو أخس وأرذل علي وفق الخبر الثاني …

وبالجملة الأدني والدنيا يصرفان علي وجوه، فتارة يعبر به عن الأقل فيقابل بالأكثر والأكبر، وتارة عن الأرذل والأحقر فيقابل بالأعلي والأفضل، وتارة عن الأقرب فيقابل بالأقصي،

وتارة عن الأولي فيقابل بالآخرة، وبجميع ذلك ورد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 9

التنزيل علي بعض الوجوه.

وقال الجزري: الدنيا اسم لهذه الحياة؛ لبعد الآخرة عنها «1». انتهي

فإذا كانت الدنيا أدني وأخس وأحقر العوالم لأنها العالم الخلقي، فأني للنازل فيها والمتلبس بسفليتها أن يرتبط بالعوالم الأمرية العلية من دون أن يبتغي سلم الوسائل ومدارج الوصائل التي تقوم برفع الإنسان عن دونية المحل الواقع فيه؟! فهبوط العالم الدنيوي وسفليته ونزوله تقتضي ضرورة اتخاذ الوسائل العديدة ليتحقق الصعود والارتفاع لنشأة أسمي وأرفع.

الضرورة الثالثة: طي الطريق ومضاعفة الخطوة … ص: 9

من المقرر في علم الكلام إنه لا حد ولا أمد ولا نهاية للمسافة بين العبد وربه، بمعني أن كل نقطة قريبة يصعد إليها الإنسان لها ما هو فوقها بشكل غير متناه، فإذا ما لوحظ في مقابل هذه الحقيقةِ حقيقةٌ أخري تتعلق بقصر أمد عمر الإنسان في هذه الدنيا، أي أن الوقت الزمني الجدي الذي يستثمره العبد ويستهلكه في علاقته المعنوية بخالقه قصير ومحدود بحيث لا يتجاوز مجموعه الإجمالي عشر سنين، في حين يستهلك العمر الباقي بين نوم ولعب ولهو وأكل ولوازم شخصية، وعلي ضوء ذلك فالسؤال ما هو السبيل لتوسعة ذلك العمر القصير ليكون طريقا لبلوغ أسمي الدرجات وأشرفها في معرفة الخالق وعبادته؟

والجواب: إنه لا طريق للتصرف في الزمن المقرر لوجود الإنسان، لكن الطريق مفتوح للتعويض عن محدودية عمر الإنسان في مضاعفة خطوات سيره إلي اللَّه، وطي المسافة الممكنة بينهما، وهذا الهدف السامي هو ما يتحقق من خلال الوسائل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 10

العبادية والعقائدية التي تكشف ظلمات الطريق وحجب الغيب، ليتسني للعبد الارتقاء لنيل الدرجة القريبة الممكنة، ولا أنجع في هذا الطريق من ابتغاء وسيلة الحضرة النبوية وأهل بيته عليهم السلام، وهذا ما عبر عنه الشيخ الأستاذ المؤلف

(حفظه اللَّه) في واحد من بحوثه المقبلة في مطاوي الكتاب من أن «النبي وأهل بيته عليهم السلام هم الأبواب والحجب والسدنة».

الضرورة الرابعة: عظمة المعبود … ص: 10

وتحتل هذه الضرورة موقع الصدارة بين كل الضرورات السابقة، وهي الإبداع الذي يتجلي للقارئ الكريم في هذا الكتاب، حيث إن الشيخ الأستاذ (دام عزه) خرج بالبحث عن طور الاستدلال علي جواز عقيدة التوسل عقلا وشرعا- كما هي عادة المتكلمين والمفسرين من الفريقين- إلي الاستدلال عقلا وشرعا علي ضرورة التوسل في نيل كل حظوة وكمال وقرب إلهي، فإذا ما هجر العبد التوسل والتقرب بالنبي وأهل بيته عليهم السلام امتنع عليه الوصول إلي نيل المعرفة باللَّه تعالي، وانسد أمامه باب عبادته وقربه، واستحال عليه إنجاز أي حاجة معنوية أو مادية، والسبب في ذلك ما بينه الشيخ الأستاذ بما لا مزيد عليه في هذا الكتاب من أن متاركة التوسل انفراط للركن الركين من التوحيد.

ويمكن تأييد الحقيقة التي وصل إليها الشيخ الأستاذ في البحث الذي بين يديك بما يذكره أهل المعني، من أن خطاب اللَّه تعالي لأحد من خلقه بلا واسطة محال، إلا من هم في مستوي الأنبياء والأولياء عليهم السلام الذين وصلوا إلي الغاية في التكامل المعرفي والعبادي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 11

وتقريب ذلك بأن يقال:

إن خطاب اللَّه تعالي بمعناه العام- سواء كان الخطاب المعرفي بإنزال الكتب والصحف والآيات، أو الخطاب التكويني بإنزال الفيض الإلهي المعنوي والمادي- يتوقف علي اللياقة والكفاءة في المخاطب، وليس في الوجود أحد حصل المستوي المطلوب من اللياقة سوي الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وفي مقدمتهم سيد الأنبياء وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، وهذا بنفسه بيان لضرورة التوسل بهم والتوجه إليهم واللواذ بحضرتهم، لكي يخاطبوا ويواجهوا من قبل اللَّه تعالي، فيتنزل الفيض بواسطتهم إلي سائر

الخلق، فإذا ما سلك العبد طريق الإباء والتكبر والتعالي علي تلك الوسائل الإلهية، انسد أمامه باب اللَّه الذي منه يؤتي، وسبيله الذي منه يقصد، فلا يبقي أمام العبد أي طريق لتحقيق آماله وبلوغ مآربه.

وإلي نفس المفاد يشير العلامة المحقق الخواجوئي في كتابه مفتاح الفلاح- في ذيل قول الإمام علي عليه السلام في دعاء الصباح: «صلِّ اللهم علي الدليل إليك في الليل الأليل» - بقوله: «لما كانت النفوس في الأغلب منغمسة في العلائق البدنية الحاصلة بسبب تدبير البدن وتكميله، مكدرة بالكدورات الطبيعية الناشئة من القوة الشهوية والغضبية، وكان ذات المفيض عز اسمه في غاية التنزه عنها، ولم يكن بينهما بذلك مناسبة موجبة لفيضان كمال.

وجب عليها في استفاضة الكمالات واستنجاح المطالب والحاجات من تلك الحضرة المتنزهة التوسل إلي متوسط يكون ذا جهتي التجرد والتعلق، ليقبل ذلك المتوسط الفيض منه بتلك الجهة الروحانية التجردية، وتقبل النفس منه بهذه الجهة الجسمانية التعلقية» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 12

وفي الختام:

اسأل اللَّه عز وجل أن ينفعنا جميعا بعلم أستاذنا الكبير آية اللَّه المحقق- الجامع لعلوم دينية شتي- الشيخ محمد السند، واسأل القارئ الكريم الإغماض عن ما في هذا الكتاب من الاشتباهات الصادرة غفلة مني.

حسن العالي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 13

مقدمة المؤلف … ص: 13

«دام ظلّه»

الحمد للَّه الذي لا يكتنه، ولا يحاط به، ولا يحده حد، ولا ينتهي إلي مدي، ولا يجانس، ولا يماثل، ولا يشاكل، وهو مع ذلك ظاهر بآياته وهي وجهه الدائم، متجل بفعله، معروف بأسمائه.

والصلاة والسلام علي السبيل الأعظم لمعرفته، والصراط الأقوم للتقرب إليه، أكبر آياته، وأقرب وسائله النبي المصطفي، وعلي آله أبوابه ومفاتيح غيبه.

وبعد:

فإنه قد قالت البضعة النبوية الطاهرة سيدة نساء أهل الجنة عليها السلام في خطبتها:

«واحمدوا اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في

السموات والأرض إليه الوسيلة، و نحن وسيلته في خلقه ونحن خاصته ومحل قدسه ونحن حجته في غيبه» «1».

وهي تشير إلي أن الطريق الحنيف إلي معرفة التوحيد بعيداً عن التشبيه، وخروجاً عن التعطيل هو منحصر بابتغاء الوسيلة، وأن الإعراض عن ابتغاء الوسيلة لا محالة يوقع إما في التشبيه أو التعطيل، وكلاهما زوال لمعرفة التوحيد، وإن زعم التمسك به شعاراً وعنوانا من دون حقيقة.

فقولها عليها السلام: «واحمدوا اللَّه» أي صفوه وانعتوه بالكمال، ووحدوه في الإلوهية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 14

والصفات والأفعال، ثم بينت السبيل إلي ذلك وإلي معرفة التوحيد ببيان البرهان علي ضرورة ذلك السبيل وعلي الانحصار به، فذكرت عظمة الخالق وهي تنزهه عن النقص وعدم انتهائه إلي حد، وشدة نوره التي لا تقف عند منتهي، وهو بمثابة ذكر البرهان علي استحالة معرفة الباري بالاكتناه والإحاطة والمثل والمشاكلة والحس والجس واللمس والمجابهة والمواجهة والمحاذاة؛ لأن كل ذلك يستلزم محدودية ذات الباري تعالي في الحد والنهاية.

وإذا استحالت معرفته بذلك فامتناع معرفته بقول مطلق هو التعطيل في المعرفة، وهو باطل أيضاً؛ لأن التعطيل يستلزم هو الآخر المحدودية في ذاته تعالي والانتهاء إلي حد لا يظهر تعالي فيما وراءه، وتعالي سبحانه عن أن يكون له ما وراءه شي ء غيره، فلم يبق إلا المعرفة بالآيات المخلوقة وهي الوسيلة إلي معرفته وتوحيده.

وكلما كان المخلوق أعظم خلقة كان أعظم آية في العلامية علي صفات الباري وعظمته، وبالتالي فإن أعظم المخلوقات علي الإطلاق يكون هو أعظم آية علي الإطلاق، وتكون بقية الآيات دونه، بل حكاية كل الآيات هي عبر أعظم آية، فهي الوسيلة علي الإطلاق لكل الآيات المخلوقة.

وقد ثبت بالضرورة أنه صلي الله عليه و آله أعظم خلق اللَّه تعالي، وقد سمّاه الباري تعالي برحمة

للعالمين كل العالمين، وبرءوف رحيم، ومن ذلك يعلم أن أنجح الوسائل وأعظمها هو سيد الكائنات، وقد قرن اللَّه تعالي به أهل بيته في التطهير، والاحتجاج علي أهل الكتاب، وعلم الكتاب كله، والولاية، وافتراض الطاعة، ومقامات أخري اصطفاءاً لهم.

ومن ذلك يعرف خطورة التوسل بالوسيلة وأنه يتوصل به إلي معرفة التوحيد في مقام الذات والصفات فضلًا عما دونه من توحيد الأفعال والعبادات، كما أن التوسل بالوسيلة إقامة للتوحيد في الولاية؛ لأنه تولي ولي ولاية اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 15

بل إن جملة من الآيات والروايات تقتضي شرطية التوسل والتوجه بهم في صحة أو قبول العبادة، فلا تقتصر الشرطية علي ولايتهم بمعني الإيمان بإمامتهم كما هو ظاهر كلمات كثير من الأصحاب، بل لا بد من الالتجاء إليهم والاستشفاع بهم إليه تعالي.

بل إن هذا الشرط شرط في قبول الإيمان باللَّه تعالي ورسوله وأوصياءه كما هو مفاد جملة من الآيات، فإن مقتضاها أن الإيمان ما لم يكن مقرونا بالخضوع والإقبال والتوجه بالحجج المصطفين فإنه لا يصعد إليه تعالي، ولا تفتح له أبواب السماء كما وعظنا القرآن الكريم في سور متعددة في ملحمة آدم عليه السلام وإبليس، فإنه شدد النكير علي إبليس من كل من جهة إبائه أي عدم تصديقه، ومن جهة استكباره علي خليفة اللَّه في الأرض أي عدم خضوعه له وعدم توجهه به إلي اللَّه تعالي، وكما ندد القرآن بالمنافقين من جهة إبائهم عن اللجوء والالتجاء والاستشفاع والتوسل برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وصدهم عنه واستكبارهم عن الخضوع له، وكما في سورة الأعراف حيث حتم سد أبواب السماء والجنة عن كل من كذب بالحجج أو استكبر عليها تدليلا علي ضرورة كل من الأمرين وهما الإيمان واللجوء والتوجه

أو التوسل بحجج اللَّه تعالي علي خلقه.

وفي الحقيقة إن ما جري من البحث المحتدم من كون الولاية للَّه تعالي ولنبيه ولأهل بيته المعصومين عليهم السلام من أصول الإيمان ومن أركان صحة أو قبول العبادات والأعمال لا يقتصر علي الإيمان بل يشمل التولي بمعني التوجه بهم والاستشفاع واللواذ بهم والعكوف علي بابهم وحضرتهم.

وليتنبه أن شرطية توسيطهم والتوجه بهم في صحة الإيمان ليست علي حذو ما يعرف من زيادة الإيمان بالأعمال الصالحة والعمل بالأركان ونقصه بتركها، بل المراد بهذه الشرطية حسب ما دلت عليه الآيات والروايات هو عدم صحته من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 16

رأس أو عدم قبوله من الأساس بدون هذا الشرط، فهو ليس شرط كمال بل شرط قوام وتقوم.

وبكلمة إن الإثارات المتشددة ضد التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام هي مبينة لأهمية وخطورة دور التوسل والاستشفاع والتوجه بهم إلي اللَّه تعالي، وكل هذا التحسس من الإقبال علي حضرة النبي صلي الله عليه و آله وحضرات أهل بيته عليهم السلام هو لحساسية هذا العمل وموقعيته كشرط لقبول الإيمان، وهذا مما لم نشاهد بلورته في الكتب والأبحاث الكلامية بجلاء بيِّن.

ولولا هذه المواجهات العنيدة لما حصل التنبه لركن التوسل في الإيمان، وإذا أراد اللَّه تعالي أن يحيي أمرا قيض له من يعاديه «وَيَأْبَي اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ»، ولقد أثلج صدري ما رقمه- اللوذعي الألمعي الفاحص الباحث عن دقائق المعارف الشيخ حسن العالي دام توقده في المعرفة- وقرره في أبحاثنا في ذلك، والمسير في درب الحقائق لا يقف عند منزل إلا وتتلوه منازل.

أرجو من الباري الهادي إلي سواء السبيل أن ينفع به لمن تدبره وأمعن النظر فيه روية.

25 رجب الأصب

يوم وفاة الإمام موسي بن جعفر

1426 ه

محمد السند

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 17

مقدّمة البحث وفيها نقطتان … ص: 17

اشارة

الأدلة القرآنية والأحاديث الشريفة والبراهين العقلية تطلعنا وتبصرنا علي أن معرفة توحيد الذات لا يتحقق إلا بالتوسل، فالإيمان بالواحد الأحد والفرد الصمد لا يتحقق في الحقيقة إلا بابتغاء الوسيلة.

النقطة الأولي: لا توحيد إلا بالتوسل … ص: 17

لا توحيد إلا بالتوسل، ولا يوحد الموحد ربه إلا بأن يتوسل، وربما يبحث الكثير عن التوسل وإمكانه ومشروعيته، أو يترقي البحث إلي ضرورته، لكن كل ذلك ليس وقوفا علي حقيقة ما للتوسل من دور خطير ودعامة كبري في الإيمان والتوحيد، فإن الأدلة القرآنية والأحاديث الشريفة والبراهين العقلية تطلعنا وتبصرنا علي أن معرفة توحيد الذات لا يتحقق إلا بالتوسل، فالإيمان بالواحد الأحد والفرد الصمد لا يتحقق في الحقيقة إلا بابتغاء الوسيلة، فشأن التوسل أعظم شأنا من كونه لقضاء حاجة واستجابة دعاء، بل هو يترقي علي ذلك إلي تأثيره في تحقيق وإنجاز أصل العبادة والمعرفة وتوحيد الذات، فخطورته متصاعدة إلي أصل أصول الدين وهو توحيد الذات والصفات والأفعال والأسماء، ولربما كانت هناك مقولة تفسر النبوة والإمامة «الشهادة الثانية والشهادة الثالثة» بأنها من أركان

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 18

التوحيد، وأنها أبواب أخري للتوحيد ومجال له، فهي بالتالي مراتب للتوحيد وأركان له، وهذه المقولة تعتمد في تبيان ذلك علي تقرير أن حاكمية اللَّه في التشريع توحيد في التشريع، وهي مؤدي الشهادة الثانية والاعتقاد بالنبوة، وأن حاكميته تعالي في الطاعة توحيد في الولاية، وهو مؤدي الشهادة الثالثة والاعتقاد بالإمامة، إلا أن التوسل يعمق تفسيرا آخر لذلك ويبين أن الاعتقاد بالنبوة والإمامة يقوم توحيد الذات والصفات لا مجرد أنه يقوم التوحيد في مقام التشريع ومقام الولاية والطاعة، بل إن إقامة معرفة توحيد الذات والصفات لا سبيل له إلا الوسيلة والتوسل بالآيات وأعظم المخلوقات وأكرم فعل اللَّه وخلقه، وذلك لأن التوحيد سبيل الحنيفية المائلة

عن التشبيه والتعطيل.

فإن الذات الإلهية الأزلية السرمدية بعد كونها غير متناهية ولا محدودة، لا بحد عقلي ولا بحد روحي ولا بحد نفساني فضلًا عن الحد الجسماني والمادي، فعلي ضوء ذلك فلا سبيل للمخلوق إلي إدراك الخالق؛ لأنه بذلك لا يكتنيه أي لا يدرك كنه ذاته، كما إنه لا يجبه لأنه ليس بجسم ليكون في حيز محدود محاط ومحاصر فيقابل ويجابه، بل ليس في البين مجابهة علي النمط العقلي أو النفسي فضلًا عن المادي، كما لا يجس ولا يحس ولا يمس، كيف وليس هو محاط كالجسم، وليس بمقهور كي تعمل فيه آلات الحس.

فمع كل ذلك فكيف للعقول أن تناله وأني للقلوب أن تبصره ولا يصار إلي امتناع معرفته؛ لأنه تعطيل وهو بمنزلة الإلحاد والإنكار، فمن أنكر المعرفة من رأس فقد قال بالتعطيل والإنكار، ومن أثبت المعرفة بالحس أو المس أو الجس أو بالجبه أو بالإكتناه فقد صغر الخالق وحدده ونعته بالمقهورية المحاطة، فلا سبيل إلي معرفة ذاته إلا بآياته، وهي أفعاله من عظائم مخلوقاته وكبير بدائعه ودقائق صنعه وتكوينه، فيتجلي لعارفيه بالآيات والأفعال وهي أسماؤه العظمي، إذ قد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 19

تسمي بها لأنها أصبحت علامات عليه وسمات لصفاته.

فلا سبيل لمعرفته إلا بأسمائه، وهي آيات خلقه الكبري، وهي أبواب سماء عزه وحجب نوره، وهي الوسيلة إليه.

ومن ثم أمر عز شأنه وجل جلاله بابتغاء الوسيلة، إذ لا سبيل إلي معرفته إلا بها، وليس الأمر بابتغاء الوسيلة عبثاً حاشي وكلا، بل لضرورة قصدها وانحصار الطريق إليه تعالي بالتوجه إليها.

وبهذه الوجيزة يتبين أن الوسيلة ضرورة في صميم إقامة معرفة الذات والصفات فضلًا عن مقامات التوحيد الأخري، كيف لا ولم تتعرف العقول علي ذاته إلا بمظاهر أفعاله وآياته الكبري التي

هي وجهه الدائم الذي لا يبيد، فإن جل أدلة الحكماء والبراهين التي استرشدوها في معرفة التوحيد هي براهين إنية تنطلق في المعرفة من المعلول «المعلوم» إلي العلة «المجهول»، ومن المخلوق إلي الخالق، وإن أسموها برهان الصديقين وأدلة لمية، إلا أن نقوض ونقود بعضهم علي بعض شاهدة علي كونها معرفة مسيرها من الآية إلي ذي الآية، وقد أعظم القرآن معرفته تعالي بالآيات، فتري الكتاب المجيد يجلجل منادياً بهذا السبيل، وهو سبيل آياته وهو الوسيلة إلي معرفته.

النقطة الثانية: كل ما يرتبط بالنبي وآله عليهم السلام وزانه وزان الأصول … ص: 19

وعموما إن كل ما يرتبط بالنبي وأهل بيته عليهم السلام من قصدهم وزيارتهم، وإحياء مجالس ذكرهم، والاحتفال بمواليدهم وتعظيم ذكرياتهم، والعزاء علي مصائبهم وما شابه ذلك، ليس وزانه الاندراج في فروع الدين فحسب، بل هو مرتبط بأصول الدين أيضا، ألا تري إنهم يذكرون في أدبياتهم التي يسطرونها في كتبهم أو يتلونها في محافلهم أن التوحيد في العبادة يرتبط بأصول الدين، إذ أن العبادة إما توحيدية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 20

أو شركية، وهذه المقولة في إطارها كشعار صحيحة، إذ الفعل وإن كان في صورته الظاهرية من فروع الدين لكن لبه وجذوره يرجع إلي أصول الدين، إذ الفروع ليست منقطعة عن الأصول، ومن ثم سميت بذلك لتفرعها عليها وانحدارها وانشعابها وتنزلها من شجرتها، فكل غصن من فروع الدين هو انشعاب من الأصول، ونهايته ترتبط بالأصول التي هي جذوره وخلفية مؤداه.

وبنفس التقرير يقال في الطقوس التي نرتبط عبرها بالنبي وأهل بيته عليهم السلام، فمن الخطأ أن يقتصر في قراءتها علي أنها فرع من فروع الدين، بل تعظيمها في الاكتراث بها والتحفظ عليها غاية التحفظ.

ومن ثم ذكر غير واحد من العلماء بما فيهم بعض علماء الشافعية والمذاهب الأخري في مؤاخذتهم علي هذه الجماعة «جماعة التكفير»

إن مؤدي جفائهم ورفضهم لأشكال الارتباط بالنبي وأهل بيته عليهم السلام من الزيارة والتوسل به والتعلق به عبر صور الآداب المختلفة يحمل في طياته وطويتهم قطيعة لسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله وتمردا وتجرءا علي ساحته المقدسة.

فالخطب ليس في هذه المراسم من جهة أنها صورة في الفروع، بل فيما تحمله في طياتها من معان، فكما يتحسسون في العبادة بزعمهم أنها لابد أن تكون توحيدية مرتبطة بأصول الدين، كذلك هم يخاطبون ويحاجون ويدانون بأن تلك الطقوس التي لا يكترثون لها ويستهينون بها ويستصغرونها هي حاملة في أسرارها وطياتها معان ترتبط بأصول الدين، ومفادها أن سيد الرسل صلي الله عليه و آله هو رسول رب العالمين، وأنه نبي من الأنبياء، فضلا عن أن الأمم مرتبطة بضرورة معية الشهادتين في كمال التوحيد، وأنه لا يتم ب «لا اله إلا للَّه»، بل إن أي مسلم من المسلمين لو ادعي أن التوحيد يتم ب «لا اله إلا اللَّه» من دون بقية الشرائط لكفر؛ لأن دعامة التوحيد بالشهادة الثانية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 21

وما لنا لا نري واقع الشهادة الثانية في أدبيات تلك الجماعة التي تتشدق بحمل راية التوحيد، فهل إن إغفالهم وعدم اكتراثهم بمؤديات الشهادة الثانية وتداعياتها وما تمليه من معان ولوازم وطقوس، هل إغفالهم لكل ذلك وقع غفلة وبشكل عفوي وصدفة غير مقصودة!!

بل إنهم لا يقتصرون علي الإعراض عن ذلك، بل هاهم يحاربون كل ما هو من مظاهر الشهادة الثانية وطقوسها، فأين هي معطيات الشهادة الثانية في أدبياتهم الكتبية التي تنشر وتوزع علي المسلمين في مواسم أداء العبادة؟

وهل إحياء الدين يتم بإعلان كلمة التوحيد «لا اله إلا اللَّه» من دون أن يضم إليها الشهادة الثانية، فضلا عن أنهم أخفقوا

في الشهادة الثالثة ويقومون بتأليف ونشر جملة من الكتب بعضها يحمل اسم: «حقوق النبي بين الإجلال والضلال» وكل ما في هذا الكتاب إزراء بالنبي صلي الله عليه و آله بالتشبه بالتأويلات المتشابهة من الآيات القرآنية مع التنكر للآيات الأخري والتعامي عنها.

فها نحن نري سياسة قريش التي حاربت النبي صلي الله عليه و آله منذ القدم مستمرة إلي يومنا هذا، تلك السياسة العدائية السابقة مع خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله التي أرادوا بها أن يخمدوا ويميتوا ركنية النبوة في التوحيد.

وهاهي السياسة الأموية التي تحاول تشطيب وتهميش دور العترة الطاهرة، والتطاول عليها لغاية النيل من نفس النبي صلي الله عليه و آله وبالتالي الرجوع بالمسلمين إلي المسار الجاهلي السابق.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 23

الفصل الأول وجوه الاستدلال علي مسألة التوسل … ص: 23

اشارة

إن الاقتراب من القريب إلي اللَّه اقتراب إلي اللَّه، والدنو ممن هو قاب إن الاقتراب من القريب إلي اللَّه اقتراب إلي اللَّه، والدنو ممن هو قاب قوسين أو أدني من الباري تعالي هو دنو من اللَّه تعالي..

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 25

وجوه الاستدلال علي مسألة التوسل … ص: 25

قد أكثر أتباع بعض المذاهب الإسلامية في تكفير المسلمين نتيجة استغاثتهم بالرسول صلي الله عليه و آله وندائهم له ب «يا رسول اللَّه» أو «يا أبا القاسم» أو «يا حبيب اللَّه»، أو الاستغاثة بعترته المطهرة بنداء «يا علي» أو «يا فاطمة يا بنت رسول اللَّه»، فيرمون غيرهم بالشرك وهم قد وقعوا فيه، وينادون بالتوحيد وهم قد ابتعدوا عنه، إذ لو صدق هذا الشعار الذي يرفعونه واستصوب لكان إبليس رائد التوحيد والملائكة أشرك المشركين، حيث قد رفض التوجه بآدم في عبادته بربه، بينما توجهت ملائكة الرب كلهم أجمعون في عبادتهم بخليفة اللَّه في أرضه وجعلوه واسطة بينهم وبين ربهم، وليس وراء هذه الإثارات إلا إنكار حجية هؤلاء الحجج الإلهيين، والإبعاد عن الارتباط بهم، وقطع الصلة الروحية بالنبي وأهل بيته عليهم السلام.

هذا مع أن الذي يتوجه ويستغيث بالنبي وعترته عليهم السلام إنما يتوجه إليهم ويستغيث بهم بصفة أنهم مقربون عند اللَّه عز وجل، ولهم مقام الشفاعة الكبري والمقام المحمود، واعتقاد المسلمين أنه صلي الله عليه و آله صاحب الوسيلة والدرجة الرفيعة، فهل تري أحدا من المسلمين يتوجه إلي الرسول صلي الله عليه و آله وعترته؟ ويتوسل بهم ويستغيث بهم إلا لقربهم من الحضرة الإلهية ولكونهم أبواب سماء الرحمة؟

فالمسلم يجد نفسه بالتوجه إلي النبي وعترته؟ هو متوجه إلي الحضرة الإلهية، وأنه حين يستغيث بهم فقد استغاث والتجأ إليها، وهذا أمر مفطور عليه البشر، ألا تري أن الذي

يلتجئ إلي وزير السلطان يقال إنه قد التجأ إلي ذلك السلطان؟

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 26

فالمتوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله إنما يتوجه إليه بتلك الصفة، وهذا معني بين واضح ومركوز في ذهن واعتقاد كل مسلم.

فإن الاقتراب من القريب إلي اللَّه اقتراب إلي اللَّه، والدنو ممن هو قاب قوسين أو أدني من الباري تعالي هو دنو من اللَّه تعالي، كما أن الوصال والاتصال بحبيب اللَّه تحبب إلي اللَّه تعالي، كيف لا وقد وصف الباري نبيه؟ بالرحمة للعالمين؟! وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، فهل التوجه إلي رحمة اللَّه إلا رحمة؟ وهل الصد والبعد عن رحمة اللَّه إلا نقمة وشقاء؟ وهل التعلق بالعترة إلا ركوب في سفن النجاة؟ إذ هو المغزي من وصفه؟ عترته بسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوي، فهو حث منه من الاقتراب من العترة والانشداد إليهم.

فإن الانجذاب إليهم انصهار في هديهم وتطبع لأخلاقهم وتأثر بأنوارهم ينجر إلي إتباع صراطهم ومنهاجهم، وأما الابتعاد عنهم والنفرة من ذكرهم، والاستيحاش من أسمائهم، والاشمئزاز من الحديث عنهم، ولوي الأعناق عن الاهتمام بشأنهم، لا يورث إلا البعد عنهم، والمتاركة لنهجهم والتخلف عن ركبهم، ونبذ كلامهم وهديهم. وهذا سر تركيز القرآن الكريم علي مودتهم، فإنها وإن كانت فعلا عاطفيا وانجذابا نفسانيا وميلانا روحيا وانسيابا قلبيا، إلا أنها مفتاح المتابعة لهم والاقتداء بهم وتولية الوجه شطرهم، إذ كيف يقتدي الإنسان بشخص وهو يبغضه؟ وكيف يقتدي به وعلاقته به جافة بجلافة؟ وكيف ينتهج هديه وهو غض فض معه، ينفر من ذكره واللهج باسمه؟ فأمر اللَّه في القرآن بمودتهم ينطوي علي سر عظيم في الاهتداء بهديهم والانتهاج بصراطهم والتقيد بوصاياهم، وهل انشداد المسلمين إلي رسول اللَّه صلي الله عليه

و آله وعترته إلا لكونه رسولا من رب العالمين، وإلا لكونه داعيا إلي اللَّه بإذنه وسراجا منيرا.

واعلم أن هاهنا قاعدة شريفة هامة عظيمة الأثر في باب العبادات وآداب

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 27

التقرب إلي الحضرة الإلهية ألا وهي:

«التوجه إليه تعالي بوجهه الكريم» أي «استقبال وجه اللَّه عند التوجه إليه» أي «التوجه إليه تعالي بالوجه بالوجيه عنده».

ويوضح هذه القاعدة الشريفة ويدلل عليها عبر أمور نسوقها فيما يلي من الوجوه.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 29

الوجه الأول: التوجه بالوسائل ضرورة عقلية … ص: 29

اشارة

إذا بطل التعطيل والتشبيه فلا يبقي إمكان لمعرفته وإخراج العلاقة معه عن الحدين الباطلين إلا بتوسط آياته الخلقية وأثاره ودلائله، وهو الوجه الذي بقصده وبتوسطه يحصل التوجه إليه تعالي.

اقتضاء التوجه والاستقبال والاتجاه القصد إلي وجه الشي الذي يراد الدنو منه، وليس المراد من هذه المعاني ما يتبادر إلي الذهن في الوهلة الأولي من الاستقبال الجغرافي الجسماني كما هو الحال في استقبال المسجد الحرام حال الصلاة، بل الاستقبال المعنوي لما يتجه به ولما يكون الاتجاه إليه توجه إلي الباري تعالي، وحيث إن ما يتجه به إلي اللَّه يطلق عليه وجه اللَّه، أي إلي جهة يتجه بها إلي اللَّه لا ما يتبادر عند المجسمة والمشبهة «وَتَعَالَي عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً».

إذ الوجه والجهة هما من مادة واحدة في أصل الاشتقاق، فأطلق علي الوجه وجه؛ لأنه الجهة التي يتوجه بها ويواجه بها، وليس وجه اللَّه كما يزعمه المشبهة المجسمة أنه جزء الذات الإلهية، إذ ليست الذات الإلهية تفتقر إلي أجزاء، ولا هي محدودة بأبعاد وأعضاء، تعالي اللَّه عما يقوله الضالون علوا كبيرا، بل وجه اللَّه هو فعله وآياته التي لا تفني ولا تبيد.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 30

ومن هنا أطلق في القرآن وجه اللَّه علي آيات اللَّه المخلوقة؛ لأنها

علامات تتجه بالناظر إليها والمتدبر فيها إلي اللَّه تعالي، كما في قوله تعالي: «وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «1»

.فأطلق وجه اللَّه علي الآيات في المشرق والمغرب كما أطلق الوجيه علي النبي عيسي والنبي موسي عليه السلام حيث قال تعالي: «اذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «2»

.وقال اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» «3».

فأطلق علي كل منهما وجيها نظرا لقربهما وجلالة شأنهما عند اللَّه تعالي، فيقال لهما وجه عند اللَّه، أي مما يتجه إليهما في نجح الحوائج عند اللَّه.

قال الخليل: «والوجه مستقبل كل شي ء، والجهة النحو، والوجهة القبلة وشبهها في كل شي ء استقبلته وأخذت فيه» «4»

. انتهي

وقال ابن منظور: «ووجه كل شي ء مستقبله» «5»

انتهي

فيقال لشخص وجاهة عند آخر ووجيه عنده بمعني أنه يقصد ويتوجه إليه ويستقبل به لنجح المسئول عند الآخر.

ومن ذلك يطلق علي باب البيت أنه وجه البيت، ومن ثم قال تعالي: «وَأْتُواْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 31

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «1»

.فعلم من ذلك: إن القصد إلي اللَّه تعالي لا بد فيه إن يستقبل وجه اللَّه، أي ما يكون وجيها عند اللَّه يتجه به إليه، وأن المستقبل له يتجه به إلي اللَّه.

فالقصد والاتجاه والسلوك والوصول والتقرب والتوجه يتضمن فيه وينطوي معني الاستقبال إلي الوجه وهو ما يتوجه به، ولأجل ذلك فرض في الصلاة كعبادة استقبال المسجد الحرام كقبلة يتوجه إليها لتتوجه بها إلي اللَّه، كالباب الذي يؤتي منه البيت.

فإذا كانت الكعبة- شرفها اللَّه قدرا وعظمها- صلحت أن تكون قبلة يتوجه بها إلي اللَّه

فكيف لا يكون من تشرفت به الكعبة وهو سيد الأنبياء وسيد الأوصياء صلي الله عليه و آله قبلة يتوجه بها إلي اللَّه تعالي؟

وقد قال اللَّه تعالي في موسي الذي مر وصفه بالوجيه عند اللَّه: «وَأَوْحَيْنَا إِلَي مُوسَي وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» «2».

فكانت بيوت موسي وهارون قبلة لبني إسرائيل، بمعني أنها قبلة يتعبد فيها ويتجه بها للعبادة.

قصد الشي توجه لوجهه … ص: 31

ثم إن هناك ضرورة في مقام التوجه إلي اللَّه تعالي وهي أن يتوجه بشي ويستقبله كي يتوجه به إلي اللَّه تعالي، سواء كانت تلك القبلة جسمانية مادية أو

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 32

معنوية مجردة، وهذه الضرورة تنبع بسبب تنزه الباري عن الجسمية وتنزهه عن إحاطة الأذهان والأرواح البشرية بذاته الشريفة، وحيث امتنع ذلك علي الباري للزوم النقص إلا أنه لا ينسد الباب لمعرفته وقصده والتوجه إليه، وإلا لزم التعطيل، وإنما امتنع الجسمية عليه والإحاطة بذاته للزوم النقص عليه وهو بطلان التشبيه.

فإذا بطل التعطيل والتشبيه فلا يبقي إمكان لمعرفته وإخراج العلاقة معه عن الحدين الباطلين إلا بتوسط آياته الخلقية وآثاره ودلائله، وهو الوجه الذي بقصده وبتوسطه يحصل التوجه إليه تعالي.

فإقامة المعرفة بتوحيده بعد إبطال التشبيه والتعطيل إلي مقام التنزه والإثبات بآياته وكلماته وهي أسماؤه التي بها يدعي.

وتقريب ذلك ببيان أوضح وأعمق: إن ذات الباري لا محدودة، وكل من صوَّر لها صورة في عقله أو حسه أو خياله أو وهمه، فالباري منزه عنها؛ لأن هذه الصورة تبقي محدودة، وهو أجلَ من أن يحد وتنتهي ذاته إلي حد معين، وإلا لعاد ناقصا ومفتقرا إلي ما وراء ذلك الحد سواء كان ذلك الحد جسمانيا أو معنويا مجردا، وحيث إن ذاته لا محدودة فلا يمكن للمخلوق

سواء كان جسما أو روحا أو نورا أن يمس أو يحس أو يجس أو يتعلق بذاته أو يكتنيها، فإذا امتنع مثل ذلك الاتصال والارتباط فلا إمكان له إلا عبر المخلوق الذي هو من آياته وآثاره، لكن لا بذلك المخلوق من حيث هو هو، بل من الجهة التي تلي فعل الرب، أي من حيث إنه فعل وأثر للباري وله دلالة عليه، فلم يكن هناك إمكان لدلالته علي ذاته إلا بآياته وهي مخلوقة له، فمن ثم تحتم أن يكون وجه اللَّه هو آياته وآثاره التي تدل عليه وتهدي القاصد إليها التوجه إليه، فهذا يبين ضرورة الأسماء التي هي الآيات المخلوقة، وإنما استحقت أن تكون أسماء إلهية لآيتيتها أي علاميتها علي الباري تعالي، ولا يمكن الاهتداء للذات الإلهية إلا عبر الأسماء، والسمة هي العلامة وهو معني الآية،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 33

ومن ثم فإن الذي ينكر ويجحد الآيات ويستكبر عليها فقد صدَّ عن التوجه إلي اللَّه تعالي وانصرف عن السبيل علي اللَّه، وإلي ذلك يشير قوله تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

فجعل الباري تعالي آياته أبواب السماء المنتهية إلي عرشه وبالتالي إلي حضرته القدسية.

فالباب إلي السماء هو الوجه الذي يتجه إليه للصعود إلي اللَّه علي مستوي العمل والعبادة والدعاء والاعتقاد، فكيف يتجه ويتوجه إليه تعالي بغير آياته؟

وكيف يمكن أن يكون وجهه غير آياته؟ وكيف يدعي بغيرها إذ هي الأسماء والعلامات عليه؟ وقد أشار اللَّه تعالي في قوله: «وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «2»

إلي هذه الحقيقة والضرورة، فكما لا يمكن أن يدعي بغير أسمائه، إذ كيف يهتدي إليه بغير اسمه؟ إذ أن

المجهول المطلق لا سبيل إليه ولازمه التعطيل، وبأسمائه عرف وقصد وتوجه إليه، وكيف يكون الاسم غير الآيات؟ إذ مر أن الذات لا يحاط بها ولا تكتنه ولا يتعلق بها مباشرة، فلم يبق إلا آثاره ودلائل فعله وهي آياته.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 35

الوجه الثاني: النبي وآله أبواب الحضرة الإلهية … ص: 35

اشارة

فلا ينفع الإقرار بالشهادة الأولي من دون الشهادة الثانية، ولا بالشهادتين من دون الإقرار بالشهادة الثالثة، وهي إمامة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين عليهم السلام.

قال تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1»

.ومفاد هذه الآية الشريفة أن الوفود علي اللَّه والتوجه إليه لا يكون إلا من أبوابه، وأن الطريق إليه تعالي لا يكون إلا منها، وأن تلك الأبواب هي آياته الخلقية وأعظمها أنبياؤه ورسله كما قال اللَّه تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَي رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» «2».

كيف لا وقد زود الأنبياء والرسل والأئمة بالآيات التي هي المعجزات للدلالة علي مقاماتهم الاصطفائية، وكونهم سفراء ووسطاء بين اللَّه وخلقه.

مضافا إلي أن إسناد التكذيب للآية في مقابل التصديق بها يدل علي أن المراد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 36

من الآية هي الحجج المصطفون؛ لأنهم هم الذين يصدق بهم ويتعلق الإيمان بحجتهم ومقاماتهم في مقابل تكذيبهم، بخلاف الآيات التكوينية فإنها لا يتعلق بها التصديق والتكذيب بذاتها، بل الإعراض أو النظر إليها وإلي دلالتها.

فالمراد بالآيات في هذه الآية الذين يتعلق بهم التصديق أو التكذيب وهم الحجج الإلهية.

شرطية الإيمان بالآيات في صعود الأعمال … ص: 36

وتدل الآية السابقة علي أن أي عمل للإنسان وأي عبادة، ولو كان الفعل من قبيل الإيمان والعقيدة، لا تصعد ولا تفتح لها أبواب السماء للقبول إلا بالخضوع والإيمان بآيات اللَّه، وهو شرط دخول الجنة.

فيستفاد منها أن التوجه والتوسل بالحجج شرط في صحة الإيمان فضلا عن كونه شرطا في العبادات وبقية الأعمال، وأن الاقتصار علي الإيمان باللَّه ورسوله والأئمة من دون التوجه والتشفع بهم إلي اللَّه لا يكون مقبولا ولا تفتح له أبواب السماء، بل لا بد

من اقترانه بالتوجه أو التوسل أو التشفع بهم إلي اللَّه تعالي.

ويدل علي اشتراط هذا الشرط في صحة الإيمان وقبوله ما وقع وصدر من إبليس الغوي من إباء وجحود خلافة آدم، واستكباره عن الخضوع والسجود له، فجعل سبب كفره كل من الإباء والاستكبار أي الجحود وعدم التوجه بآدم، فلم يقتصر علي الجحود، بل ظاهر الآيات في سور عديدة أن كلا من عدم الإيمان بخلافة آدم وعدم التوجه به كلا منهما سبب مستقل موجب لغواية إبليس وطرده عن باب الرحمة الإلهية.

وهذا يؤكد أن الإيمان لا بد أن يكون مقرونا بالتوجه بحجج اللَّه إلي اللَّه تعالي، والتوسل بهم واللواذ بهم وإلا لما صح الإيمان.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 37

ومن الأدلة علي هذه الشرطية ما سيأتي في قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وأناْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

من تقرير أنه لم يكتف بإيمانهم بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، بل أخذ عليهم الانقياد له لأجل إعطائهم مقاما عقائديا يحلونه في العقيدة وهو مقام من النبوة والرسالة والتي هي بنفسها من أصول الاعتقاد.

فإذا كان الانقياد لسيد الأنبياء يورث أصلا اعتقاديا فهو مما يشير إلي خطورة موقعيته وضرورة ضميمته للإيمان.

ومن الأدلة ما سيأتي أيضا في الوجه السادس من قول اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2»

حيث تدل الآية علي أن الوصول إلي اللَّه معرفة وسيرا ووفودا لا يتم إلا عبر التوسل بالوسيلة والتوجه بها إليه، وبالتالي عدم تحقق الإيمان إلا بذلك وهو المراد من صحة الإيمان.

وعلي

ضوء ذلك يتبين أنه كما حرر أن الإيمان ليس مجرد إدراك، بل تصديق وإذعان وجزم، كذلك يضاف هنا أنه ليس مجرد تصديق وإذعان وإخبات، بل تول عملي بالتوجه والانشداد لهم واللواذ بهم.

فلا ينفع الإقرار بالشهادة الأولي من دون الشهادة الثانية، ولا بالشهادتين من دون الإقرار بالشهادة الثالثة، وهي إمامة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين عليهم السلام، حيث وصفهم القرآن الكريم بالطهارة وهو معني الاصطفاء الإلهي، كما نعت المطهرين بعلم الكتاب، ومقتضاه حجيتهم إلي غير ذلك من أوسمة القرآن لهم الدالة

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 38

علي اصطفائهم وحجيتهم.

مضافا إلي أن التعبير في الآية في المقام هو بالجمع «بآيات اللَّه» خطابا لهذه الأمة بالسنة الإلهية الدائمة، فلا ينحصر المراد بسيد المرسلين صلي الله عليه و آله، بل يعم أهل بيته الأطيبين عليهم السلام..

وإن الذي يريد أن يتوجه إلي الحضرة الإلهية من دون أن يخضع ويتولي النبي صلي الله عليه و آله والأوصياء عليهم السلام لا تفتح أبوابها حتي يلج الجمل في سم الخياط.

ولأجل استكبار إبليس عن الخضوع لآدم عليه السلام كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ» «1»

عن آية الرحمن فلم يقبل إيمانه، ولم تزك عبادته، وردت عليه؛ لأنه لم يقصد الحضرة الإلهية ولم يتوجه إليها بآدم عليه السلام.

فعلم من هذه الآية أن آيات اللَّه هي الأبواب التي من استكبر عنها وصد فقد صد عن التوجه إلي اللَّه تعالي.

فإذا كان الباري قد جعل آياته وأولياءه المصطفين أبوابه، فكيف يؤمل من يستكبر عن التوجه بهم إلي اللَّه أن يحصل له القرب الإلهي والوصول إلي الزلفي والحضرة الإلهية!! فمفاد الآية الكريمة ضرورة التوجه إليه تعالي بأوليائه المقربين من الأنبياء والمرسلين والأوصياء المطهرين عليهم السلام

علاوة علي التصديق والإيمان بهم، فهو شرط في الإيمان فضلا عن سائر العبادات والأعمال.

وفي الكتاب المعروف لأمير المؤمنين عليه السلام الذي كتبه إلي أكابر أصحابه، والذي قد رواه الكليني بسنده في كتاب الرسائل، ورواه السيد الرضي عنه أنه قال: «قيل فمن الولي يا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: وليكم في هذا الزمان أنا ومن بعدي وصيي ومن بعد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 39

وصيي لكل زمان حجج اللَّه كيما لا تقولون كما قال الضُّلال من قبلكم فارقهم نبيهم «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَي» «1»

وإنما كان تمام ضلالهم جهالتهم بالآيات وفهم الأوصياء فأجابهم اللَّه:

«قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَي» «2»

وإنما كان تربصهم أن قالوا نحن في وسعة عن معرفة الأوصياء حتي يعلن الإمام علمه، فالأوصياء قوام عليكم» «3».

واستشهاده صلي الله عليه و آله بالآية في غاية الظهور، حيث إن أهل الضلال يوم القيامة يتعذرون لعدم إتباع الآيات بعدم وجود الرسول، ولا يقبل عذرهم هذا؛ لأن اللازم عليهم الفحص والمعرفة بالآيات لكي يتبعوها، فالحجة قائمة عليهم.

وجه آخر في شرطية التوجه بهم إلي اللَّه في صحة العبادات … ص: 39

ومن الوجوه التي يمكن تقريرها بحسب صناعة الاستدلال علي ذلك ما هو مقرر في مباحث أصول الفقه ومباحث علم الفقه، من أن قوام المغايرة بين العمل التعبدي والعمل التوصلي هو بالنية والقربة، وأن من مقومات النية قصد امتثال الأمر قربة إلي اللَّه تعالي، فنية القربة والزلفي قصدها كغاية مسبب عن قصد آخر بمثابة السبب وهو قصد الأمر، بل في الحقيقة امتثال الأمر الإلهي، وهذا القالب لنية القربة ولنية سببها مقرر في جميع العبادات من الصلاة والحج والصوم والزكاة وغيرها، وقوام عبادية

العبادة بذلك حيث إن قصد امتثال الأمر المحقق للقربة والزلفي إلي الحضرة الإلهية هو في الحقيقة طوعانية وطاعة للَّه تعالي، فقوام العبادية بالطاعة،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 40

والعبودية والطاعة من باب واحد، كما أن المعبودية والربوبية والمطاع بالذات من باب واحد، وحيث إن جميع شرائط العبادات هي لا تقتصر علي فرائض اللَّه بل تشتمل علي سنن النبي صلي الله عليه و آله بضرورة الدين عند المسلمين ويكون إتيانها في العبادات امتثالا لأمر الرسول صلي الله عليه و آله طاعة له بتبع طاعة اللَّه التي هي طاعة ذاتية لتحقيق العبادة للَّه تعالي، كان قصد القربة الذي يحقق النية العبادية هو مسبب عن قصد امتثال أمر اللَّه تعالي وأمر الرسول صلي الله عليه و آله، وكذلك الحال في سنن أوصياء النبي صلي الله عليه و آله فإن جملة من شروط العبادات وبعض موانعها قد سنها الأوصياء من عترة النبي صلي الله عليه و آله وعلي كلا التقديرين فإن إتيانها في العبادات هو امتثال لأمرهم عليهم السلام، وبالتالي فتكون نية القربة للَّه تعالي في العبادات مسببه عن نية امتثال أوامر اللَّه تعالي وهي فرائضه وأوامر النبي صلي الله عليه و آله، وهي سننه وأوامر الأوصياء وهي هديهم ومنهاجهم وطريقتهم.

وهذا التقرير لبيان عبادية العبادة من مباحث التعبدي والتوصلي في علم الفقه وأصول الفقه لم يبلور في الكلمات، ولكن القالب الصناعي لتقرير النية في التعبدي هو ذلك، وهذا مطابق لعموم قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» «1».

فجعل مقرونا بطاعته طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر، مع أن الطاعة هي العبودية، والعبودية خاصة لأُلوهيته تعالي، إلا أن طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وأوصيائه

عليهم السلام بيان لباب طاعة اللَّه، وبالتالي لعبادته.

كيف لا وهذه الطاعة للَّه في الآية عامة وشاملة لعموم أبواب الدين لا يشذ عنها فصل من فصوله، كذلك طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر؟، وبالتالي فهم أولياء دين اللَّه، هذا فضلا عن عشرات الموارد التي قرن اللَّه بطاعته طاعة رسوله في السور

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 41

القرآنية.

وقد يصعب علي البعض تصور هذا المطلب فضلا عن التصديق والإذعان به، أو قد يستغربه البعض الآخر، فلنعد تقريره وبيانه بعبارة أخري، فإن جملة ما تقدم من الأدلة والآيات دال علي شرطية التوسل واللواذ بهم والتشفع بهم إلي اللَّه في العبادات، وما مر من صيغة قصد امتثال الأمر ما هو إلا صيغة صناعية كقالب لذلك.

ولك أن تقول: إن الصلاة التي يأتي بها المؤمن صلاة علي وفق منهاج ومذهب جعفر بن محمد عليهما السلام، أي أن الصلاة وغيرها من العبادات إنما يؤتي بها بالصورة المأمور بها من قبل الأئمة عليهم السلام المرتبطة بالصورة التي أمر بها اللَّه ونبيه صلي الله عليه و آله، ومن ثم تمثيل أوامر الأوصياء كامتثال أوامر النبي صلي الله عليه و آله في ضمن العبادة التي يؤتي بها امتثالا لأمر اللَّه.

فالعبادة هي للَّه وحده لا شريك له، إلا أن الباب والمفتاح لإتيان تلك العبادة الخالصة له تعالي لا يتحقق إلا بامتثال أوامر الرسول وأوصيائه عليهم السلام.

ومن ثم يتبين أن العابد في أثناء أداء العبادة إذا أراد الزلفي والقرب إلي اللَّه تعالي، لا بد له من أن يتوسل إلي ذلك بالتوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام إلي اللَّه، وذلك عبر امتثال أمرهم في ذات العبادة الخالصة لرب العالمين، فامتثال أمرهم نافذ ومتخلل وناخر في الفعل العبادي الذي يأتي به

العابد في عبادته.

ولا يتوهم أن هذا تقريب نظري تنظيري لا صلة له بالواقع العملي في العبادة، فإن الداعي الارتكازي المحرك في العبادات مفروض في البين، وهو المحرك نحو خصوص الصورة الخاصة من العبادة التي هي علي طبق أوامرهم؟.

فمحركية أوامرهم في العبادة والانقياد لها في الداعي المرتكز في نية العابد في عبادته مقرر ومفروض، فليست أوامرهم طريقا محضا لا يلحظ فيه معني الطاعة والولاية، كيف وقد أكدت الآيات عنوان الطاعة لهم مقرونة بطاعة اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 42

شرطية التولي والتبري في أصل الإيمان … ص: 42

إن التولي والتبري يعد في كلمات علماء الإمامية من أركان الفروع، وقد بينوا الفرق بينهما وبين الإيمان بولاية أهل البيت عليهم السلام التي هي من أصول الإيمان.

إن ولايتهم تارة علي صعيد المعرفة والإذعان والإخبات والتسليم القلبي فهي من أصول الديانة الإيمانية، وتارة بمعني التولي السياسي والانقياد والمتابعة في التشريع والارتباط السلوكي بهم في كافة الميادين فجعل من الفروع غاية الأمر من أركان الفروع، إلا أن الأدلة التي استعرضناها في التوسل والذي يتطابق في عمومه مع عنوان التولي؛ لأن جعلهم وسيلة يشمل عدة ميادين وأصعدة، من جعلهم وسيلة في معرفة الأحكام، وجعلهم وسيلة في الأخذ بأي منهج ومنهاج سياسي واجتماعي، وقد اتضح من الأدلة أنها تفيد شرطيته في صحة الإيمان.

فعلي ضوء ذلك يكون وقع التولي والتبري ودوره خطيرا في أصل الإيمان وقبوله لا مجرد جعله من أركان الفروع.

وإلي ذلك يشير لفظ الحديث النبوي المروي من طرق العامة والخاصة، وهو قوله صلي الله عليه و آله: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» «1».

فإن مفاد هذا الحديث الشريف إن التولي والولاء السياسي لهم؟ دخيل في أصل الإيمان فضلا عن معرفتهم التي وردت في طرق أخري من ألفاظ

الحديث.

والتولي والولاء السياسي هو عبارة عن التوسل بهم عليهم السلام واتخاذهم وسيلة بالتوجه إليهم في النهج السياسي، كما هو شأن الوسيلة في التوجه إليها أولًا كي يتم التوجه بها إلي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 43

الوجه الثالث: غواية إبليس لاستكباره عن التوجه بآدم … ص: 43

اشارة

فاستكبار إبليس عن التوجه بآدم في عبادته اعتبر كفرا بتوحيد اللَّه، وانفراطا للركن القويم للتوحيد بذلك الاستكبار والإباء.

الوجه الثالث في الاستدلال علي عقيدة التوسل ما جري من قصة آدم مع إبليس، وإليك مجموعة الآيات الحاكية عن تلك القصة:

قال اللَّه تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «1».

وقال تعالي: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِين* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخرج انَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ» «2»

.الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 44

وقال تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَي» «1».

وقال تعالي: «اذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِين* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» «2».

فبينت الآيات أن سنة اللَّه تعالي لملائكته في التوجه إليه هو أن يتوجهوا إليه في عبادتهم بصفوة أوليائه، فتوجهوا إليه في قمة عبادتهم وهي السجود باستقبالهم آدم خليفة اللَّه في أرضه وإمامه علي عباده، فكانت سنة إبليس الاستكبار عن التوجه في العبادة بخليفة اللَّه آدم، بينما سنة اللَّه الخالدة لملائكته هي أن التوحيد في العبادة قوامه بالخضوع للَّه عبر التوجه

إليه بخليفته، فالاستكبار عن هذا الباب تمرد عن الوفود إلي الحضرة الإلهية.

فاستكبار إبليس عن التوجه بآدم في عبادته اعتبر كفرا بتوحيد اللَّه وانفراطا للركن القويم للتوحيد بذلك الاستكبار والإباء «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 45

لا مسرح للاشتباه في التطبيق العقائدي … ص: 45

قال البعض: إن الخطأ الصغروي في العقائد لا يخل بالإيمان والهداية، وإنما هو اشتباه في التطبيق نظير الخطأ في بعض العوارض مع إصابة الجوهر، لكن الصحيح ومقتضي التحقيق خطأ هذه المقولة، فإن الخطأ الصغروي في العقائد لا يختلف عن الخطأ الكبروي إلا في شدة الجحود والجهل، وإلا لكان مطلق الخطأ في العقيدة والاعتقادات من قبيل الاشتباه في التطبيق؛ لأنه ما من نِحلة وملة إلا ويزعم أصحابها في أساس وخلفية معتقدها تبني أصلا صحيحا في نفسه، إلا أنهم يطبقوه علي مدعي باطل ويستدلون به علي نتيجة خاطئة، وهذا كما تري.

هذا مع أنه قد شدد القرآن الكريم النكير علي التكذيب بالآيات والظلم بها، مع أن دورها وشأنها دور الآيات، أي في مقام ظهور الحق في المقامات المختلفة، واعتبر إنكار تلك الآيات غيا وضلالا وكفرا، ومن ثم كان جحود ما هو الحق في أي مسألة اعتقادية هو جحود لظهور الحق في ذلك المقام، إلا أن كل مقام بحسبه وموقعيته من الخطورة والأهمية كمقام لظهور الحق.

وقد نبهنا غير مرة أن أصول الدين هي أبواب أخري للتوحيد من توحيد الذات وتوحيد الصفات والتوحيد في التشريع وهو النبوة والتوحيد في الولاية وهو الإمامة والتوحيد في الغاية وهو المعاد، غاية الأمر أن الشأن في تفاصيل الاعتقادات يختلف عن الشأن في أصول الدين، لكون ظهور الحق أجلي في الآيات الكبري ودونه في الآيات الصغري. وبذلك يظهر أن جحود شي ء من أصول الدين هو جحود لظهور الحق في المقامات العظمي،

وليس خللا مقصورا علي الصغري.

ومن ثم كان خطأ إبليس في إنكاره لخيرية آدم عليه، وزعمية خيريته علي آدم- مع إقراره بالذات الربوبية حيث نادي الباري: «قَالَ فانظِرْنِي إِلَي يَوْمِ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 46

يُبْعَثُونَ» «1»

. ومع إقراره بالمعاد وإقراره بنبوة آدم في قوله تعالي: «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخرتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلَّا قَلِيلًا» «2»

. إلا أنه جحد ولاية آدم- لم يكن ذلك الخطأ شأنه حكم مجرد الاشتباه في التطبيق، بل كان ذلك منه جحودا لأصل من أصول الدين وهو ولاية ولي اللَّه، وبالتالي جحودا للتوحيد في مقام الولاية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 47

الوجه الرابع: لا نفي للتعطيل والتشبيه إلا بالتوسل وهو التوحيد … ص: 47

إن أكثر الذين نفوا الوسائط وقعوا في شراك التجسيم أو الصور المحسوسة أو المتخيلة أو الموهومة لذات الباري، وهذا من القول بالنقص وانتهاء أمد الذات الإلهية.

إن نفي الوسائط التي يتوجه بها إلي الباري تعالي كآيات وأسماء له يستلزم إما التعطيل وإما التجسيم والتحديد ونحوهما وهو التشبيه الباطل، وإن أكثر الذين نفوا الوسائط وقعوا في شراك التجسيم أو الصور المحسوسة أو المتخيلة أو الموهومة لذات الباري، وهذا من القول بالنقص وانتهاء أمد الذات الإلهية، وهو أشد شركا وأوغل في الكفر من عبدة الأوثان، إذ الوثنيون والمشركون ينزهون الذات الإلهية عن الجسمية، وينزهونها عن أن تكون من الأرواح أو النفوس، ويعتقدون أن هناك أرواحا كلية تتعلق بالأصنام وتقوم بدور الوساطة والشفاعة، واتخاذهم للواسطة غير المأذون فيها وبغير سلطان أتاهم من اللَّه هو الذي أوقعهم في الشرك والكفر، لأنهم يحكمون إرادتهم في اتخاذ الواسطة في الشفعاء علي إرادة اللَّه تعالي، كما تشير إلي ذلك جملة من الآيات القرآنية، من أن المحذور الذي وقعوا فيه هو أنهم ارتكبوا ذلك بغير سلطان كما

في العديد من الآيات، ومنها:

قوله تعالي: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 48

بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»».

وقوله تعالي: «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» «2».

وقوله تعالي: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) «3».

وقوله تعالي: (قُلْ إنما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وأن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وأن تَقُولُواْ عَلَي اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «4».

وقوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ» «5».

وقوله تعالي أيضا: «انْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الأنفس وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَي» «6».

فتبين من مجموع الآيات أن هذه الوسائط التي اتخذوها كأسماء يدعون الرب بها، وكسمة وعلامة وآية ودلالة وواسطة في التوجه هي أسماء هم سموها لم يسمها اللَّه لهم، أي لم يجعلها وسائط وأبواب يتوجه بها إليه.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 49

وغيرها من الآيات الكريمة الدالة، علي أن المحذور ليس في ضرورة الوسيلة والواسطة والاسم والسمة والعلامة والآية التي يتوجه بها إليه تعالي، وإنما المحذور أنهم وسطوا وسائط واتخذوا أبوابا وأسماء هي ليست بأبواب ولا وسائل ولا وسائط ولا أسماء ولا علامات ولا آيات يمكنهم عند التوجه

إليها التوجه إلي اللَّه تعالي، بل يكون فعلُهم هذا إلحاداً وحياداً وميلاناً وصداً عن سبيل اللَّه.

والوثنيون مع ذلك استشعروا وأقروا بهذه الضرورة، وأدركوا أن الباري منزهٌ عن الجسم، وأنه لا تدركه الأبصار ولا تستوعبه الأوهام، فحيث أدركوا ذلك أحسوا بالعجز وبضرورة الواسطة والاسم والآية، إلا أنهم مع ذلك لم يصل بهم الحال إلي التجسيم والإيهام بصورة يختلقها الوهم، بينما هؤلاء الذين نفوا الواسطة والاسم والعلامة والوجه الوجيه الذي يتوجه به وقعوا في شراك التجسيم والتصوير الوهمي لذات الباري؛ لأنهم حيث لم يتأهلوا للوحي والنبوة فلا محالة اضطروا إلي القول بالتحديد في الذات الإلهية والجهة المكانية، كي يمكنهم بتخيلهم الوفود علي الحضرة الإلهية، وإلا فيلجئهم التنزيه مع نفي السفراء والوسائط الإلهيين والآيات إلي التعطيل.

فهم يفرون من محذور ويقعون في محذور أكبر مما وقع فيه أهل الوثنية، حيث إن الوثنية نزهوا ذات الباري إلا أنهم جعلوا ما ليس بوسيلة وسيلة، وما ليس بواسطة واسطة، بينما هؤلاء حجموا الذات الإلهية وحددوها إلي أمد مقداري «1».

ومن ذلك يتبين أن من ينزه الباري عن التحديد والتجسيم والتصوير وعن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 50

القيود والحدود الخلقية، فلا محالة لأجل أن لا يقع في التعطيل ويحافظ علي التنزيه من دون تشبيه لا مفر له من القول بالآيات الإلهية الكبري، وأنها وجهه الكريم الذي يتوسل بها إليه، وأنها أسماؤه التي يدعي وينادي ويتوجه بها إليه، وهذا هو الذي تشير إليه الصديقة فاطمة عليها السلام في مطلع خطبتها بقولها: «واحمدوا اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته، ومحل قدسه، ونحن محبته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه» «1».

فمن يعظم اللَّه لابد أن يبتغي إليه الوسيلة، وإلا

اضطر إلي تصغير الرب وتحديده وإنهائه إلي أمد وقدر.

والتعظيم يلجئه ويضطره كي لا يقع في التعطيل بعد نفيه للتصغير والتشبيه إلي القول بالوسيلة.

ومن هنا نقف علي حقيقة المقام المعرفي والأفق العلمي لأهل البيت عليهم السلام مع أنهم كانوا يعيشون في بيئة جاهلية متخلفة، بل البشرية من الحضارة الهندية والحضارة الرومية والحضارة الفارسية وإن وصلوا إلي تنزيه الرب إلا أن منهم من لم يدرك ضرورة الوسيلة كاليونانيين، ومنهم من أدرك ضرورة الوسيلة إلا أنه لم يهتد إلي ما هو في الحقيقة وسيلة، ويميزه عما هو صد وصدود عن سبيل اللَّه والوسيلة إليه.

وإلي ذلك أيضا أشار أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 51

ويشير عليه السلام إلي نفس ضرورة الوسيلة والواسطة والآية والعلامة والاسم والسمة اللازمة لعظمته تعالي، وأن من أدرك ذلك من الخلق منهم من أخطأ في إصابة الوسيلة الحقيقية فدان بأديان مشتبهة ظنا منه أن تلك الوسائط أسماء وآيات ودلالات ووساطات موصلة، وجهل أنها صدود عن السبيل إلي اللَّه تعالي والوسيلة إليه.

ومثله قول أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السلام كما عن علي بن سويد، قال: كتبت إلي أبي الحسن موسي عليهما السلام وهو في الحبس كتابا أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة، فاحتبس الجواب علي أشهر ثم أجابني بجواب هذه نسخته:

الحمد للَّه العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ، وضال ومهتد، وسميع وأصم، وبصير وأعمي

حيران، فالحمد للَّه الذي عرف ووصف دينه محمد صلي الله عليه و آله …

إلي أن قال: فاستمسك بعروة الدين: آل محمد والعروة الوثقي: الوصي بعد الوصي والمسالمة لهم والرضا بما قالوا، ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحبنَّ دينهم، فإنهم الخائنون الذين خانوا اللَّه ورسوله وخانوا أماناتهم.

وتدري ما خانوا أماناتهم؟ ائتمنوا علي كتاب اللَّه فحرفوه وبدلوه، ودلوا علي ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم» «1».

وقال الإمام علي بن موسي الرضا عليهما السلام عندما سأله أبو قرة المحدث صاحب

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 52

شبرمة: «فمن أقرب إلي اللَّه الملائكة أو أهل الأرض؟ قال أبو الحسن عليه السلام: إن كنت تقول بالشبر والذراع، فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبر أعلي الخلق من حيث يدبر أسفله، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره، من غير عناء، ولا كلفة، ولا مؤنة، ولا مشاورة، ولا نصب، وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة، فأطوعهم له، وأنتم تروون أن أقرب ما يكون العبد إلي اللَّه وهو ساجد، ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلي الخلق، وأحدهم من أسفل الخلق، وأحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضا، فكلهم قال: «من عند اللَّه أرسلني بكذا وكذا» ففي هذا دليل علي أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل» «1».

وهذا بيان واف من الإمام الرضا عليه السلام أن من ينف التجسيم عن اللَّه والاقتراب الجسماني فهو مضطر للقول بالقرب المعنوي، وأن صاحب الوسيلة الذي يستشفع بشفاعته إلي اللَّه تعالي ويتوجه به إلي اللَّه تعالي هو أقرب الخلق إلي اللَّه، وهم محمد صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين الذين ميزهم اللَّه مع نبيه

صلي الله عليه و آله بالطهارة دون بقية الخلق.

ومنه يظهر أن التوسل بصاحب الوسيلة والقرب والتوجه به إلي اللَّه هو من صميم التوحيد القائم علي التنزيه ونفي التشبيه والتمثيل والتعطيل، وأن الذي ينفي التوسل والاستشفاع بالشفيع والتوجه بالوجيه يقع في التشبيه والتمثيل أو التعطيل.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 53

الوجه الخامس آيات الأسماء … ص: 53

اشارة

إن الأسماء الإلهية هي الآيات الدالة عليه تعالي وعلي صفاته العليا، فالمخلوقات العظيمة من جهة دلالتها علي عظمة الباري وعظمة صفاته هي آيات وعلامات، وبالتالي هي أسماء إلهية.

قال تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» «1».

قال تعالي: «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» «2».

قال تعالي: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسمائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «3».

قال تعالي: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 54

لَا يَعْلَمُونَ» «1».

قال تعالي: «قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أو ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا» «2».

قال تعالي: «اللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَي» «3».

قال تعالي: «انْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَي» «4».

قال تعالي: «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَي يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «5».

قال تعالي: «وَمَنْ أَظْلَمُ

مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَي فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ» «6».

قال تعالي: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ» «7».

وجاء في الرواية عن عبد الأعلي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «اسم اللَّه غير اللَّه، وكل شي ء وقع عليه اسم شي ء فهو مخلوق ما خلا اللَّه، فأما ما عبرته الألسن أو ما عملته الأيدي فهو مخلوق، واللَّه غاية من غاياه، والمغيي غير الغاية، والغاية موصوفة، وكل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 55

موصوف مصنوع، وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمي» «1».

وخلاصة ما قاله المجلسي:

«بيّن عليه السلام المغايرة بأن اللفظ الذي يعبر به الألسن والخط الذي تعمله الأيدي، فظاهر أنه مخلوق» «2».

وقوله عليه السلام: «واللَّه غاية من غاياه» المراد أن الغاية تطلق علي النهاية وتطلق علي الآية والعلامة، فكل من كان له مطلب وعجز عن تحصيله بسعيه يتوسل إليه باسم اللَّه، والمغيي المتوسل إليه لتلك الغاية غير الغاية.

أو يراد بالغاية النهاية وباللَّه الذات لا الاسم، فالرب تعالي غاية آمال الخلق يدعونه عند الشدائد بأسمائه العظام، والأسماء طرق ومسالك توصل الخلق إلي اللَّه في حوائجهم، والعقل يحكم بأن الوسيلة غير المقصود بالحاجة.

أو أن الغاية العلامة فالباري هو ذو العلامة، فأسماؤه علامات عليه.

ومن زعم أنه يعرف اللَّه بحجاب الأسماء التي هي حجب بين اللَّه وخلقه، ووسائل بها يتوسلون إليه، بأن زعم أنه تعالي عين تلك الأسماء أو الأنبياء والأئمة عليهم السلام، وبأن زعم أن اللَّه تعالي اتحد بهم أو الصفات الزائدة، فإنه حجب عن الوصول إلي حقيقة الذات الأحدية.

أو زعم أنه ذو صورة كما قالت

المشبهة، أو بصورة عقلية زعم أنها كنه ذاته وصفاته تعالي، أو بمثال خيالي، أو جعل له مماثلا ومشابها من خلقه فهو مشرك، للزوم تركبه تعالي وكونه ذو أجزاء تعالي اللَّه عن ذلك.

وجاء في الرواية الصحيحة الإعلائية عن ابن رئاب وعن غير واحد، عن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 56

أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «من عبد اللَّه بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعني فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعني فقد أشرك، ومن عبد المعني بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه، فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام حقاً».

وفي حديث آخر: «أولئك هم المؤمنون حقاً» «1».

وجاء في الرواية عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إن اللَّه تبارك وتعالي خلق اسما بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة علي أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحدا منها، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت، فالظاهر هو اللَّه تبارك وتعالي، وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان، فذلك اثنا عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، الخالق البارئ، المصور، الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر، العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن «البارئ»، المنشئ، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي، المميت، الباعث، الوارث. فهذه

الأسماء وما كان من الأسماء الحسني حتي تتم ثلاث مائة وستين اسما، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة وهذه الأسماء الثلاثة أركان، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة وذلك قوله تعالي: «قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 57

أياما تدعوا فله الأسماء الحسني» «1».

قال العلامة المجلسي بالمعني: والمراد بالاسم كل ما يدل علي ذاته وصفاته تعالي أعم من أن يكون اسما أو فعلا أو جملة، فاللَّه إشارة إلي كل الصفات لكونه موضوعا للذات المستجمعة لكل الصفات الكمالية، وتبارك إلي جميع الصفات الفعلية، وسبحان أو تعالي (علي اختلاف النسخ كما في الكافي) دال علي الصفات التنزيهية وسلب النقائص، وهذه الأسماء جعلها ليظهر بها علي الخلق، فالظاهر هو الاسم والظاهر به هو الرب سبحانه «2».

وحكي المجلسي عن أبيه المجلسي الأول في تفسير الرواية ما خلاصته: إن الاسم الأول هو الاسم الجامع الدال علي الذات والصفات، ومعرفة الذات بالكنه محجوبة عن غيره تعالي، فصار الاسم الدال علي الذات محجوبا عن الخلق وهو الاسم الأعظم، والدال علي مجموع الاسم والصفات اسم أعظم باعتبار آخر، ويشبه أن يكون الاسم الجامع هو «اللَّه» والاسم الدال علي الذات فقط هو «هو»، وتكون المحجوبية باعتبار عدم التعيين.

وقال المجلسي الثاني: أو أن الاسم كناية عن مخلوقاته تعالي، والاسم الأول الجامع كناية عن أول مخلوقاته، ثم عن تشعب المخلوقات وتعدد العوالم «3».

وقد قيل في سبب نزول قوله تعالي: «قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أو ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا» «4»

. إنه حين سمع المشركون رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: يا اللَّه يا رحمن، فقالوا: إنه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص:

58

ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إله آخر.

وقالت اليهود: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره اللَّه في التوراة، فنزلت الآية ردا لما توهموه من التعدد أو عدم الإتيان بذكر الرحمن.

وقوله صلي الله عليه و آله: وذلك قوله عز وجل: «قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أو ادْعُواْ الرَّحْمَنَ» استشهاد بأنه له تعالي أسماء حسني، وأنه إنما خلقها ووضعها ليدعوه الخلق بها، فقال تعالي قل ادعوه تعالي باللَّه أو بالرحمن أو بغيرهما، فالمشار إليه بالأسماء شي ء واحد وهو الرب سبحانه.

ومن الروايات في الوسيلة ما يلي:

ما رواه جابر بن عبد اللَّه الأنصاري في تفسير قوله تعالي: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» «1»

. قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أول ما خلق اللَّه نوري ابتدعه من نوره واشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتي وصل إلي جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد للَّه تعظيما، ففتق منه نور علي عليه السلام، فكان نوري محيطا بالعظمة، ونور علي محيطا بالقدرة، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري، ونوري مشتق من نوره، فنحن الأولون، ونحن الآخرون، ونحن السابقون، ونحن المسبحون، ونحن الشافعون، ونحن كلمة اللَّه، ونحن خاصة اللَّه، ونحن أحباء اللَّه، ونحن وجه اللَّه، ونحن جنب اللَّه، ونحن يمين اللَّه، ونحن أمناء اللَّه، ونحن خزنة وحي اللَّه وسدنة غيب اللَّه، ونحن معدن التنزيل ومعني التأويل، وفي أبياتنا هبط جبريل، ونحن محال قدس اللَّه، ونحن مصابيح الحكمة، ونحن مفاتيح الرحمة، ونحن ينابيع النعمة، ونحن شرف الأمة، ونحن سادة الأئمة، ونحن نواميس العصر وأحبار الدهر، ونحن سادة العباد، ونحن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 59

ساسة البلاد، ونحن الكفاة والولاة والحماة والسقاة

والرعاة وطريق النجاة، ونحن السبيل والسلسبيل، ونحن النهج القويم والطريق المستقيم، من آمن بنا آمن باللَّه، ومن رد علينا رد علي اللَّه، ومن شك فينا شك في اللَّه، ومن عرفنا عرف اللَّه، ومن تولي عنا تولي عن اللَّه، ومن أطاعنا أطاع اللَّه، ونحن الوسيلة إلي اللَّه والوصلة إلي رضوان اللَّه، ولنا العصمة والخلافة والهداية، وفينا النبوة والولاية والإمامة، ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة وشجرة العصمة، ونحن كلمة التقوي والمثل الأعلي والحجة العظمي والعروة الوثقي التي من تمسك بها نجا» «1».

وروي في بصائر الدرجات بسنده عن سلمان الفارسي عن أمير المؤمنين عليه السلام في قول اللَّه تبارك وتعالي: «قُلْ كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» فقال: «أنا هو الذي عنده علم الكتاب» وقد صدقه اللَّه وأعطاه الوسيلة في الوصية، ولا يخلي أمته صلي الله عليه و آله من وسيلته إليه وإلي اللَّه، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2».

وروي الصدوق بإسناده عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «الأئمة من ولد الحسين، من أطاعهم فقد أطاع اللَّه، ومن عصاهم فقد عصي اللَّه، هم العروة الوثقي، وهم الوسيلة إلي اللَّه عز وجل» «3».

ف وروي الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده عن عكرمة في قوله تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» قال: «هم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام»».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 60

تحقيق في معني الاسم في القرآن … ص: 60

الاسم في أصل وضع اللغة إما من الوسم وهو الأثر والعلامة.

والموسوم هو من عليه علامة.

ويقال قد سمت فيه الخير أي رأيت فيه أثر، أو من السمو وهو الارتفاع والعلو، يقال

سما إليه بصري أي ارتفع بصري إليه.

ويقال سما به أي أعلاه.

ويقال سما لي شخص فلان، أي ارتفع حتي استبنته وسما إليه بصري، إذا رفع لك شي ء من البعيد فاستبنته قلت سما لي شي ء.

قال ابن منظور في لسان العرب: اسم الشي وسمه «بفتح السين وكسرها وضمها» وسماه علامته.

وقال الزجاج: معني قولنا اسم، مشتق من السمو وهو الرفعة.

وقال الجواهري: والاسم مشتق من سموت، لأنه تنويه ورفعة.

وإذا نسبت إلي الاسم قلت سموي «بكسر السين وفتح الميم» وسموي «بفتح السين وسكون الميم» …

وقال أبو العباس: الاسم رسم وسمة توضع علي الشي فتعرف به.

وقال أبو إسحاق: إنما وضع الاسم تنويها بالدلالة علي المعني؛ لأن المعني تحت الاسم.

وفي التهذيب: ومن قال إن اسما مأخوذ من وسمت فهو غلط.

وقال الجوهري: سميت فلانا زيدا، وسميته بزيد بمعني، وأسميته مثله، فتسمي به.

وقال سيبويه: الأصل الباء؛ لأنه كقولك عرفته بهذه العلامة ووضحته بها.

وسُئل أبو العباس عن الاسم أهو المسمي أو غير المسمي، فقال: قال أبو عبيدة:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 61

الاسم هو المسمي.

وقال سيبويه: الاسم غير المسمي «1». انتهي

ويتحصل من ذلك:

إن الاسم هو الشي الدال علي مسمي علامة عليه ودلالةً وتنويهاً، وأن السمو والوسم متقارب المعني من حيث الدلالة والبيان والعلامة علي الشي.

وإذا اتضح ذلك تبين أن الأسماء الإلهية هي الآيات الدالة عليه تعالي وعلي صفاته العليا.

فالمخلوقات العظيمة من جهة دلالتها علي عظمة الباري وعظمة صفاته هي آيات وعلامات، وبالتالي هي أسماء إلهية.

فكلما عظم خلقة المخلوق دل علي عظمة فعل وصفات الباري، فكان اسما أكبر وأعظم، ومن ذلك يظهر أن الكلمة الملفوظة بالصوت التي يتلفظ بها الإنسان الداعي هي مخلوقة له، إنما صح إطلاق اسم اللَّه عليها بلحاظ دلالتها علي المعني، والمعني في الذهن أيضا مخلوق

للنفس الإنسانية، وهو بدوره دال علي الصفات أو الذات الإلهية، ولكن أين دلالة الصوت الملفوظ عن المعني في الذهن من دلالة المخلوق الموجود في الخارج، فإن دلالة المخلوقات العظيمة تكوينية بينما دلالة الصوت الملفوظ اعتبارية أدبية، فصدق الأسماء الإلهية علي الآيات الخلقية صدق حقيقي، بينما صدقها علي الأصوات الملفوظة مجاز عقلي، وأين هذا من ذاك «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 62

ومن هنا يتبين معني الآية الكريمة: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي» أي الآيات العظمي «فَادْعُوهُ بِهَا» أي فتوجهوا بها إليه تعالي، وأن معني قوله تعالي: «وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ» «1»

يتطابق مع قوله تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء» «2»

وكليهما في سورة الأعراف.

ومنه يتنبه إلي الإشارة في قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا» «3»

فإن أحد الأقوال في تفسير الأسماء هي الأسماء الإلهية، أي الأسماء الإلهية كلها، وعلي ذلك يكون قد أطلقت علي مخلوقات عظيمة أعظم من الملائكة ومن آدم عليه السلام، حيث قال تعالي: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» «4»

.فاستعمل ضمير الجمع للعاقل الشاعر الحي، وكذلك اسم الإشارة للشاعر الحي العاقل «هؤلاء»، مما يدلل علي أن هذه المخلوقات العظيمة حية شاعرة عاقلة لم تكن الملائكة تحيط بها خبرا ولا علما، حيث «قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 63

وإلي ذلك الإشارة في قول الإمام الصادق عليه السلام في الروايات السابقة.

فيتضح أن المخلوقات العظيمة التي لها مقام الزلفي والقرب الإلهي هي أسماؤه تعالي، أسماء وآيات دالة عليه تعالي من حيث إنها آيات وكلمات، ومن ثم أطلق علي عيسي عليه السلام كلمته، وأطلق عليه وجيها فقال تعالي: «اذْ قَالَتِ

الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «1».

وكذلك موسي عليه السلام. قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» «2».

هذا فضلا عن سيد الأنبياء وأوصيائه الطاهرين عليهم السلام.

ولا بد أن يتنبه إلي ضرورة الأسماء الإلهية في باب المعرفة بالذات الإلهية وباب التوجه إلي الحضرة الإلهية، فإن الطلب للمجهول المطلق ممتنعٌ، وإدراك المبهم المتوغل في الإبهام من كل جهة محال، وهذا حال المخلوق مع كنه الذات الإلهية، فلا بد من علامة يهتدي بها إلي الذات الإلهية، وتلك العلامة هي الاسم والأسماء والآيات.

فلولا دلالة الأسماء علي المسمي لامتنع الطريق إليه تعالي، وللزم التعطيل في المعرفة.

ومن ذلك تبين أن الأسماء التي هي الآيات المخلوقة هي الوسيلة إلي معرفته تعالي.

ومن ثم لو أعملنا دقة التحليل في ألفاظ قوله تعالي: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 64

فَادْعُوهُ بِهَا» عن المدعو هو اللَّه تعالي، والأسماء هي الوسيلة للدعاء والتوجه والقصد إليه تعالي، وأن الإلحاد عن الأسماء يمنع التوجه إلي الذات الإلهية، وأن حقيقة الأسماء هي الآيات العظيمة في الخلقة الإلهية لا للأصوات الملفوظة والرسوم المنقوشة المكتوبة التي هي نماذج اعتبارية لا تكوينية للأسماء.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 65

الوجه السادس: ابتغاء الوسيلة … ص: 65

إن التوجه إلي اللَّه تعالي يجب أن يكون بشي وهو الوسيلة، ولا يتوجه إليه تعالي بدون وسيلة ووصلة، وهذا هو القاعدة التي ذكرناها.

قال اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

وقوله تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أقرب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا» «2».

ذكرنا أن معني

الوسيلة هو ما يتوسل به ويتوجه به، أو ما يجعل وصلة للوصول إلي شي ء، وذلك الشي هو بمثابة الغاية المطلوبة بالأصل، ومن الجدير بالذكر أن الآيات السابقة لا تعبر بلفظ «ابتغوه» وإنما تعبر بلفظ «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ» مما يدلل علي أن التوجه إلي اللَّه تعالي يجب أن يكون بشي وهو الوسيلة، ولا يتوجه إليه تعالي بدون وسيلة ووصلة، وهذا هو القاعدة التي ذكرناها.

ومن ثم فإن القول بأن الأعمال الصالحة والقربية هي الوسيلة لا ينافي القول أن هذه الوسيلة تحتاج إلي وسيلة أخري من أجل أن تصعد وتتأهل للصحة والقبول

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 66

الإلهي، فإن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالولاية مما يدلل علي أن لهذه الأعمال الصالحة وسيلة وهي ولاية أهل البيت عليهم السلام، فهي وسيلة في وسيلة، وسيأتي ما يتعلق بهذا الوجه.

وبيان مفاد الآية بنحو أوضح أن لفظة فعل الأمر «وَابْتَغُواْ» متعلق أولًا وبالذات بلفظة الوسيلة كمفعول به، أي أن الذي يبتغي ويقصد هو الوسيلة، ولفظة «إِلَيهِ» متعلق ثانٍ، وهو لأجل الوصول إليه تعالي.

فمفاد الآية أن القصد والابتغاء يتوجه أولًا إلي الوسيلة وبها يحصل التوجه إلي اللَّه تعالي.

هذا فضلا عما لو جعلنا الجار والمجرور متعلق بلفظ الوسيلة، فيكون الابتغاء متعلق بنحو التمحض بلفظ الوسيلة، وعلي كلا التقديرين فالقصد متوجه ابتداءً إلي الوسيلة، وعبرها يتم التوجه والوصول إلي اللَّه تعالي.

وهذه الآية نص في أن هناك مسافة وبعداً بين العباد والرب من طرف العباد اتجاه الرب تعالي، وإن كان الرب تعالي قريب من العباد من جهته هو إليهم علما وسيطرة واستيلاء؛ لأنه لو لم تكن مسافة وبعدٌ من العباد اتجاه الرب من جهتهم إليه تعالي لما كان معني لطلب الوسيلة ولوجودها بينه وبين خلقه، ولكان الأمر بطلبها

منه تعالي لغوا، وهو خارج عن الحكمة الإلهية.

ويستفاد من الآية الكريمة أن الوصول إليه تعالي ولقاءه منحصرٌ طريقه وسبيله بالوسيلة ولا يتم بدونها؛ وذلك لأن الآية تقرر وجود البعد والمسافة بين الخلق والخالق من جهة الخلق، وذلك بسبب نقصهم في الكمالات عن الكمال الإلهي، فالبعد ذاتيٌ بينهم وبين الخالق ولا يُطوي من قبل ذاتهم، بل لا بد من أمر آخر خارج عنهم وهو الوسيلة.

كما أن الآية الثانية تبين وتبرهن أن المناط في كون الشي وسيلة يدور مدار قربه إلي اللَّه تعالي، فكلما كان أقرب كان مقامه في الوسيلة أعلي وأنفذ.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 67

كما أن آية الإسراء تدلل علي أن الغاية من الوسيلة هي لأجل القرب منه تعالي، وبالتالي تقررُ وجود البعد بين الخلق واللَّه من جهة الخلق إليه تعالي، ولأجل هذا البعد فلا بد في طيه من التوسل بالوسيلة والتوجه إليها وقصدها؛ لأن دور الوسيلة الوساطة والتقريب، ومن ثم يكون أقرب الخلق إلي اللَّه هو أعظمهم وسيلة، ويكون صاحب الشفاعة الكبري، ويكون هو الرحمة الإلهية القصوي.

ولا ريب بضرورة القرآن والدين أن أقرب الخلق إلي اللَّه هو سيد الأنبياء، ومن ثمَّ خُص بالشفاعة الكبري، وكان أقربهم وسيلة إلي اللَّه، ووصفه الباري بأنه رحمة للعالمين، وخَلع عليه من خاصة أسمائه الإلهية وهو الرءوف الرحيم.

وقد قرن اللَّه تعالي بنبيه صلي الله عليه و آله في جملة من المقامات أهلَ بيته الأطهار عليهم السلام، وجعل الوسيلة إلي القرب من نبيه؟ مسايرةَ أهل بيته عليهم السلام فقال تعالي: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1».

فجعل الوصلة إلي نبيه صلي الله عليه و آله والباب إليه مودة قرباه، وعظَّم من تلك المودة فجعلها كفوا لجميع الرسالة، تنبيهاً

علي أنهم الباب الأعظم إلي الرسول صلي الله عليه و آله والرسالة والدين والديانة، ثم قال في سورة أخري: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي اللَّهِ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيٍ شَهِيدٌ» «2».

فبين أن نفع مودة قربي النبي صلي الله عليه و آله عائد للخلق والعباد أنفسهم؛ لأنهم وسيلةٌ لهم إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله، فقال في سورة أخري: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «3».

فكانوا هم السبيل الأعظم إليه والمسلك إلي رضوانه، فنصت مجموع هذه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 68

الآيات علي كونهم الوسيلة والسبيل إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله، وربطت بين كونهم وسيلة وسبيلًا وبين دور ومقام النبي صلي الله عليه و آله، فجعلت مودتهم التي هي سبيل ووسيلة أجراً لجُهد النبي صلي الله عليه و آله في تبليغ الرسالة، وقد بينت الصديقة فاطمة عليها السلام جملة هذه البيانات القرآنية من بعد الخلق عن اللَّه من جهتهم إليه لا من جهته إليهم، واحتياجهم بالتالي إلي الوسيلة، ودورها في معرفة التوحيد، وأن تلك الوسيلة هم النبي وأهل بيته عليهم السلام، كل ذلك في قولها عليها السلام: «واحمدوا اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة ونحن وسيلته في خلقه».

ويشير إلي هذا المعني من كونهم عليهم السلام الوسيلة العظمي إلي اللَّه تعالي- أي النبي وأهل بيته عليهم السلام؛ لأن مصطلح القرآن في عنوان أهل البيت كما في آية التطهير المراد به النبي وقرباه المطهرين من المعاصي- ما ورد في العديد من الزيارات كما فيما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات: «من زار الحسين عارفا بحقه كان

كمن زار اللَّه في عرشه».

كما ورد في قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1»

فجعل اللَّه تعالي الاستجارة بنبيه صلي الله عليه و آله وفودا عليه للتوبة ومجيئا إليه، ونظيره قوله تعالي: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَي» «2»

كما جعل المجي إلي المسجد زيارة إليه تعالي، فكيف بمن جعل اللَّه مودتهم سبيلا إليه، وأنها العدل الأعظم لرسالته، ومن باهل به اللَّه وجعله حجة من حججه مطهرا، وحججه هي آياته التي يصدق بها، وآياته هي أبواب سمائه ومفاتيح رحمته، كما في سورة الأعراف التي سبقت.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 69

الوجه السابع: وجه الشفاعة … ص: 69

اشارة

فوجود الأبواب بين المخلوق من جهته إلي الخالق عقيدة قرآنية أصيلة ومعتقد إسلامي أصيل، والتنكر له جحود لعقيدة ركن في نظام السنة الإلهية.

نبدأ البحث باستعراض آيات الشفاعة، وقد وردت آيات الشفاعة في القرآن علي طوائف عديدة، ومن المهم تصنيفها إلي أصناف تمهيدا لإيضاح رؤية القرآن فيها:

طوائف الآيات … ص: 69
الطائفة الأولي: آيات نفي الشفاعة … ص: 69

قال اللَّه تعالي: «فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ» «1».

وقال تعالي: «وَاتَّقُواْ يَوْماً لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ» «2».

الطائفة الثانية: آيات نفي الشفعاء … ص: 69

قال تعالي: «وانذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَي رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 70

وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» «1».

وقال: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وأن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ» «2»

.وقال: «فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ» «3».

«وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» «4».

الطائفة الثالثة: آيات تحقق الشفاعة مع الإذن الإلهي … ص: 70

«انَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلَي الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» «5».

«وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّي إذا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 71

«يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «1».

«اللّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» «2».

الطائفة الرابعة: آيات تحقق الشفاعة من قبل المرضي قولا وفعلا … ص: 71

«لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا» «3».

«يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «4».

«وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «5».

الطائفة الخامسة: آيات تحقق الشفاعة في صالح من كان مرضيا … ص: 72

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» «6».

والنتيجة علي ضوء الجمع بين مفاهيم الطوائف القرآنية السابقة كما يلي:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 72

(1) استحالة الشفاعة الاستقلالية عن اللَّه من قبل أي مخلوق لآخر.

(2) بطلان توهم الشفعاء المزعومين من قبل البشر.

(3) صحة الشفاعة مع صدور الإذن الإلهي بها، والمراد به الإذن التكويني الذي يعني إقدار اللَّه لهم علي الشفاعة.

(4) احتياج الشفيع إلي شرائط روحانية وملكوتية استثنائية تؤهله للشفاعة.

(5) ضرورة توفر المشفوع له علي العقائد الصحيحة التي تجعله جديرا باستيعاب الشفاعة له.

الطائفة السادسة: آيات ضرورة تحقق الشفاعة … ص: 72

الآية الأولي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

الآية الثانية: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ»».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 73

بحوث الآية الأولي … ص: 73
اشارة

قال اللَّه تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

القاعدة الأولي: التوسل شرط في صحة التوبة … ص: 73
اشارة

وهذه الآية من المحكمات ذات المفاد الدائم، ولاسيما وأن للتوبة أكبر علاقة ورابطة بين العبد وربه، والتوبة مأخوذة من الأوبة وهي الرجوع إلي اللَّه تعالي.

وتبين الآية الأولي أن لتوبته تعالي علي البشر شرائط وهي كسنة دائمة أبدية، وأول تلك الشرائط ومبدؤها- أي التي يراعي في البدء- هو التوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله وقصد الحضرة النبوية، وهذا نحو توسل بالنبي صلي الله عليه و آله وتوجه به إلي اللَّه تعالي.

وثانيها استغفار المذنب وهو ندمه وتوبته ورجوعه.

وثالثها استغفار الرسول صلي الله عليه و آله، أي أن استغفار مذنبي الأمة وتوجههم بالنبي صلي الله عليه و آله وهما الشرطان الأولان ليسا كافيين في حصول توبة اللَّه ما لم يتوسط الرسول صلي الله عليه و آله ويتشفع في نجح سؤال المستغفرين.

وقد جعل توسط الرسول صلي الله عليه و آله في نهاية المطاف للتدليل علي أن ترتب الجزاء وهي التوبة الإلهية إنما يتحقق عقب الدور النبوي في الشفاعة لجميع الأمة، في جميع ما تسأل الأمة من ربها.

ويرتسم لنا من ذلك أن هذا ليس مخصوصاً بباب التوبة والاستغفار من الذنوب الذي هو أعظم حاجيات المخلوقين، بل هو شامل لكل سؤالٍ ودعاءٍ وطلب من الحضرة الربوبية، بل إن حقيقة التوبة هي من الأوب وهو الرجوع

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 74

والوفود علي الحضرة الإلهية والتوجه إليها وقصدها.

فالبحث في التوبة في الحقيقة بحث في مطلق الزلفي والتقرب والتوجه للحضرة الإلهية.

وقد أُطلق علي نوافل صلاة الظهر اسم صلاة الأوابين، لما فيها من الأوبة الخاصة.

فالتوبة في الحقيقة ليست عملا منحازا ومنفصلا عن حقيقة العبادات، إذ

كل باب من العبادات نوع من الأوبة إلي اللَّه تعالي، فكل عبادة تصب في نفس مضمار الاستغفار.

وعلي ذلك فالآية تدل علي لزوم شرطين آخرين يجب أن ينضما إلي العبادات:

الأول: هو المجي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والوفود علي الحضرة النبوية، بعد كون الآية غير مخصوصة بزمان الحياة الشريفة للنبي صلي الله عليه و آله إذ هي تتعرض لأمر أبدي ولأعظم أمر يخص العبد في العلاقة بينه وبين اللَّه، فمؤداها سنة إلهية أبدية تشترط في التوبة المجي للنبي صلي الله عليه و آله.

الثاني: استغفار الرسول صلي الله عليه و آله.

وبصراحة مرة ننبه علي أن الفقهاء أغفلوا في كتبهم الفقهية وكتبهم الكلامية الشرط الأول، وإن نبه بعضهم علي أن من شرائط التوبة الإيمان بولاية النبي وأهل بيته عليهم السلام، لكنهم أغفلوا هذا الشرط وهو اللجوء والالتجاء واللواذ بحضرة النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.

وبعبارة أخري: إن الآية تضيف في شرائط التوبة- علاوة علي أصل الإيمان بالنبي وأهل بيته عليهم السلام- اشتراط التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله، فلفظ الآية في الشرط الأول يعني اللجوء إلي الحضرة النبوية واللواذ به والاستعاذة والالتجاء، وهو عين التوسل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 75

والتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله.

وقد أفتي فقهاء الإمامية وعلماؤهم في صلاة الفريضة والنافلة باستحباب دعاء التوجه قبل تكبيرة الإحرام بل بعدها أيضا، وهو: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وما أنا من المشركين علي ملة إبراهيم ودين محمد وهدي علي أو منهاج علي» والدعاء الآخر: «باللَّه أستنجح وباللَّه أستفتح، وبمحمد الرسول وآله أتوجه».

مناقشة مع الفخر الرازي … ص: 75

قال الفخر الرازي في التفسير الكبير:

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا اللَّه وتابوا علي

وجه صحيح لكانت توبتُهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلي استغفارهم؟

قلنا: الجواب عنه من وجوه

الأول: إن ذلك التحاكم إلي الطاغوت كان مخالفة لحكم اللَّه، وكان أيضا إساءة إلي الرسول صلي الله عليه و آله وإدخالا للغم في قلبه، ومن كان ذنبه كذلك؛ وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره، فلهذا المعني وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.

الثاني: إن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمرد، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلي الرسول صلي الله عليه و آله ويطلبوا منه الاستغفار.

الثالث: لعلهم إذا تابوا بالتوبة أتوا بها علي وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول واللَّه أعلم «1». انتهي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 76

أقول: وكل ما ذكره من الوجوه فيه نظر

أما الأول: وفيه مع عدم خصوصية المورد؛ لأن المورد لا يخصص الوارد بل يفسره، إن تفسيره لشرطية استغفار الرسول صلي الله عليه و آله لا ينطبق علي تجاوزهم لحق الرسول؛ لأن اللازم أن يكون التعبير حينئذ «وغفر لهم الرسول»، بخلاف التعبير الذي هو من باب الاستفعال؛ فإنه وساطة وتشفع عند اللَّه، والاستغفار هو طلب الرسول صلي الله عليه و آله من اللَّه أن يغفر لهم اللَّه عن حق له تعالي.

وأما الثاني: وفيه أن رجوعهم عن غير تمرد، إنما يكون بالطاعة والانقياد علي حسب زعمه، بينما مفاد الآية العام شرطية استغفار الرسول لهم، لا مجرد طلبهم من الرسول صلي الله عليه و آله أن يستغفر لهم، مع أن استغفار الرسول متعلق بما هو حق اللَّه، بينما تمردهم علي طاعة الرسول هو بالخضوع له لا الحصر بطلب

أن يستغفر لهم.

وأما الثالث: وفيه أن هذا اعتراف بأن توبتهم من دون شفاعة النبي صلي الله عليه و آله مخدوشة وناقصة ومختلة، وهذا هو كر علي ما فر منه وتنكر له، مما يبين صراحة الآية في الشرطية العامة للتوبة من عموم الذنوب، ولو كان الخلل في توبتهم من جهة فعل هم يقومون به، فكيف يقوم فعل من غيرهم مقام فعلهم؟ مع أن ظاهر الآية تمامية الاستغفار كفعل لهم، وإنما التأكيد علي ضرورة ضميمة شفاعة النبي صلي الله عليه و آله لذلك وضميمة الالتجاء والاستشفاع بالنبي صلي الله عليه و آله، ويقرر عموم مفاد الآية «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 77

القاعدة الثانية: شرطا الإيمان والعبادة … ص: 77
اشارة

قد مر في الوجه الثاني أن نبهنا أن آية سورة الأعراف الآتية وغيرها من الآيات التي مرت في الوجوه السابقة دالة علي أن التوسل أو التوجه أو التشفع بهم عليهم السلام شرط في حتمية الإيمان باللَّه ورسوله وبإمامتهم، فلا يكفي الإيمان بولاية اللَّه ورسوله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم السلام من دون اللجوء إليهم.

فالمصلي في الصلاة إلي اللَّه يتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله، ولا يقتصر علي الإيمان بالنبي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 78

وأهل بيته عليهم السلام، فما بحثه فقهاء وعلماء الإمامية من أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في صحة العبادات، أو شرط في قبولها لا يفي بتمام البحث، إذ كما تلاحظ أن الآية الكريمة تضيف شرطا آخر في صحة العبادة أو قبولها وهو التوجه بهم والتوسل بهم كعمل قلبي قصدي، وهذا الشرط قد دل عليه أيضا قوله تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

حيث

لم تكتف الآية بمانعية التكذيب في صعود الأعمال والدعاء والعبادة والعقيدة، بل جعلت المانع أيضا الاستكبار علي الآيات في مقابل الالتجاء إليها والتوجه بها، نظير التعبير الذي ورد في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2».

فالاستكبار علي الآيات في مقابل الالتجاء والتوجه بها.

وقد استعمل هذا التعبير أيضا في استكبار إبليس عن التوجه بآدم والتوسل به للوصول إلي اللَّه تعالي.

فجملة هذه الآيات وغيرها تشترط هذا الشرط زيادة علي أصل الإيمان والتصديق بآيات اللَّه وحججه وهم النبي وأهل بيته عليهم السلام.

ومن ثم جاء التعبير فيها كشرط أول «جاؤوك» «3»

، ولم يجعل الشرط الأول الندامة أو الاستغفار أو البكاء، كما لم يجعل الشرط مجرد الإيمان بالنبي وبولاية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 79

أهل بيته عليهم السلام، بل جعلت أول شيٍ يفعله المذنبون هو الالتجاء العملي للحضرة النبوية.

وهذا التعبير بالمجي في الاستعمال العرفي يعني الأمر بالاستجارة بالنبي صلي الله عليه و آله والاستنجاد بحضرته وحماه الذي هو حمي رحمة اللَّه تعالي، فيفر مذنبو الأمة من غضب اللَّه إلي رحمة اللَّه تعالي، فالأمر بالمجي إليه صلي الله عليه و آله نص بحسب الاستعمال العرفي كناية عن الاستجارة، وهي نمط من الاستغاثة نظير ما في قوله تعالي: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ» «1».

فتشترط الآية قبل استغفارهم وندامتهم أي قبل الإتيان بالعبادة- لا خصوص التوبة- أن يلتجئوا إلي النبي وأهل بيته عليهم السلام بالترامي في حضرتهم وتعاليمهم ووصاياهم.

ولا بد أن نتعرف في زمننا هذا من هو الذي يجسد امتداد النبي صلي الله عليه و آله؟ ومن هو الذي بالالتجاء إليه يتحقق الالتجاء بالنبي صلي الله عليه و آله؟ ومن الذي يحل محله في

هذا الركن؟ وهو بقية اللَّه في الأرضيين الإمام المهدي (عج).

الانتماء الصادق لأهل البيت عليهم السلام … ص: 80

ثم إنه لا يظن إن المجي إلي الحضرة النبوية وأهل بيته عليهم السلام وللمهدي بقية اللَّه في الأرضيين هو المجي الفيزيائي بالبدن، كما ليس المراد من التوسل بهم هو التوسل بمجرد لفظ دعاء التوسل.

بل المراد من المجي إليهم هو الترامي في مسار أهل البيت عليهم السلام بكله، والانتماء إليهم مقدما علي أي انتماء سواء انتماء المواطنة، فإن المواطنة الأولي هي لأهل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 80

البيت عليهم السلام، أو الانتماء الوظيفي فإن الانتماء الوظيفي الأول هو لهم، أو الانتماء الأسري أو العشائري، فكل ذلك لهم أيضا، أو الحزبي والتنظيمي، فإن الانتماء الأول إلي نظام طائفة أتباعهم، فلا بد من تشديد الانتماء لهم ولمناهجهم والتشبع بهديهم وتعاليمهم، وأن يكون هوانا وعوننا ونصرنا لهم، والذوبان فيهم بفكرنا وعملنا وتخطيطنا وممارساتنا، ولابد من الهجرة لهم في فكرنا، والهجرة لهم في سلوكنا، وفي منهاجنا وفي ولائنا السياسي والاجتماعي والتشريعي القانوني، ولا يكفي أن نؤمن بهم ونحن لا نلتجئ ولا نتوجه إليهم، ونحن جافون قاطعون مبتعدون عنهم، جاعلون ولاءنا ومودتنا في من يباينهم، فهم كهف يؤوي إليه في كل شي ء، وباب الرحمة، وموضع العبادة والتقرب.

وقد جُعل هذا التوجه والالتجاء إلي الحضرة النبوية ملجأ يحتمي به من الغضب الإلهي، وعن النقمة الإلهية، وعاصم يعصم من السخط الإلهي.

فالكينونة في تلك الحضرة والروضة بأبعادها المختلفة أمان عاصم وشفيع مشفع، وإلا فالندامة وحدها والاستغفار وإرادة التوجه المباشر للحضرة الإلهية لا يعصم من سطوته تعالي وعقابه بنص الآية.

فالمجي إلي النبي صلي الله عليه و آله التجاء واستعاذة ولواذ به، كما أشار اللَّه تعالي في قوله:

«وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»

«1».

فمن عجيب الأمر أن يأمر اللَّه تعالي بذلك، بالتمسك بسيد الأنبياء وباللواذ بحضرته صلي الله عليه و آله بينما تلك الجماعة تحادد اللَّه جهارا، وتنهي عن اللواذ بنبيه وأهل بيته عليهم السلام، وتنهي عن الاستغاثة به.

فينهون عن قول «يا محمد يا علي» ويسمون هذا التوحيد الجلي في الآية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 81

الكريمة بالشرك، فهم يحكمون بالشرك بذلك علي الملائكة بسجودهم لآدم، ويحكمون بالتوحيد علي إبليس، ويجعلون منه الرائد القدوة الذي يتبع في خطواته.

ثم إن الآية تشترط علاوة علي ذلك تشفع النبي صلي الله عليه و آله، وتدلل بذلك علي مقام عظيم لسيد الأنبياء من أن جميع عبادة العباد لا تقبل في الحضرة الإلهية إلا بتشفع النبي صلي الله عليه و آله لقبولها من قبل اللَّه تعالي.

فجميع أعمال العباد- عباداتهم وقصدهم وقرباتهم وتوجههم إلي الحضرة الإلهية- لابد لها من وساطة النبي صلي الله عليه و آله لقبولها في الحضرة الإلهية.

فلو أهلك عابد نفسه، وعمر ما عمر نوح في قومه صائما نهاره قائما ليله وصلي بين الركن والمقام لما قبلت عباداته من دون شفاعة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله «1».

هذا بعد توفر عبادته علي الشرط الأول وهو التوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام.

ولا يخفي الصلة الوثيقة بين هذا المقام وبين ما أثبتته جملة من الآيات في النبي وأهل بيته عليهم السلام من الشهادة علي الأعمال كما في قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 82

وقوله تعالي مخاطباً أهل البيت عليهم السلام: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ» «1»

،

وغيرها من الآيات.

فإن مقام شهادتهم لأعمال العباد هو لرعايتهم لتلك الأعمال حتي يتشفعوا لقبولها في الحضرة الإلهية، فهي لا تأخذ طريق الكمال والبقاء الأبدي من الفيض الإلهي إلا بواسطة النبي وأهل بيته عليهم السلام لمجري هذا الفيض.

كيف لا والنبي وأهل بيته عليهم السلام يتشفعون للأنبياء في حصولهم علي النبوة والكتاب والحكمة وسائر المقامات الغيبية، كما يأتي في قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وأَناْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «2».

نزول الفيض الإلهي متوقف علي شروط ثلاثة … ص: 82

إن الشرائط المزبورة في الآية ليست شرائط في خصوص التوبة، بل هي شرائط في عموم العبادة الإلهية بما يشمل العبادة العلمية وهي المعرفة العقلية والقلبية، فحصول الإجابة والفيض الإلهي المعرفي والكمالي مشترطة بالشروط الثلاثة المتقدمة.

وهذه الآية تبين سنة قرآنية عظيمة وشرعية في كيفية ناموس الدعاء والطلب من الحضرة الإلهية، وهي أنه ينبغي تقديم التوجه إلي الحضرة النبوية علي الدعاء

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 83

والطلب، أو قل يلزم في ماهية الدعاء تقديم التوجه إلي الحضرة النبوية عليه.

ثم لابد أن يضاف إلي الدعاء مطالبة النبي صلي الله عليه و آله وحمله لذلك الطلب والذهاب به إلي الحضرة الإلهية.

فالآية بيان واضح لسنة إلهية دائمة هي لزوم تشفع النبي صلي الله عليه و آله إلي الرب في قضاء جميع حوائج الخلق، فالتوسل به صلي الله عليه و آله مقدم علي الدعاء من الحضرة الإلهية، ثم يتعقبه الدعاء من الحضرة الإلهية، ثم ذلك يهيئ الأرضية إلي شفاعة النبي صلي الله عليه و آله وتشفعه.

فتبين من ذلك أن الشفاعة ملزومة للتوسل، وأن ما دل علي ضرورة الشفاعة دال علي

ضرورة التوسل، وضرورة اقترانهما بدءاً وختماً للدعاء من الحضرة الإلهية.

ويعاضد الآية السابقة في نفس المفاد قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «1».

فهذه الآية متطابقة مع مفاد الآية السابقة في أطراف مفادها وعناصر مكوناته والخصائص المشار إليها، فها هي تبين أن الخطوة الأولي للمذنبين ولصراط الأوابين إليه تعالي هي أن يتوجهوا إلي الحضرة النبوية، وهذا يتطابق مع الشرط الأول في الآية السابقة مفادًا ورتبة، وهذا الشرط مفادا وتقدما لا يختص بالتوبة من الذنوب، بل هو قوام ودعامة أساسية في كل أوبة ورجوع وتوجه إلي الحضرة الإلهية، وأن طريق السلوك إليها هو بالتوجه إلي بابها وهي الحضرة النبوية.

كما أن الآية تدل علي أن شرط حصول التوبة والأوبة إلي اللَّه تعالي هو باستغفار الرسول صلي الله عليه و آله وتشفعه في ذلك، وأما استغفار المذنبين فكأنه شرط مطوي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 84

مدلول عليه بإرادة المذنبين للأوبة إلي الحضرة الإلهية.

مضافًا إلي أن الآية تتعرض إلي بيان حقيقة وحكم المنكرين للتوسل بالنبي صلي الله عليه و آله والتوجه به إلي اللَّه تعالي والاستشفاع به، وهي أنهم مستكبرون- كحكم إبليس عندما أعرض وأبي عن التوجه بآدم عليه السلام في عبادته إلي اللَّه أنه استكبر وكان من الكافرين- وأن هؤلاء صادون عن سبيل اللَّه تعالي، وينطبق عليهم قوله تعالي:

«وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «1».

لأنهم أعرضوا عن باب اللَّه الأعظم، وآيته الكبري، واسمه العظيم الدال علي عظمة الذات الإلهية.

فالصادون عن حجج اللَّه تعالي المصطفين مكذبون بهذه الآيات الكبري، ومستكبرون عليها، وملحدون عنها إلي صراط الغوي.

وبالتالي فالآية الكريمة تشير إلي انحصار الطريق إليه تعالي بالتوسل بالنبي صلي الله عليه و

آله والتوجه به إلي اللَّه؛ وذلك لأنها كما تشترط طريق الأوبة والرجوع إلي اللَّه بالتوسل والتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله وقيامه بدور الشفاعة، كذلك تبين حكم الطرف المقابل والحالة المقابلة، بأنه طريق غواية وصد عن سبيل اللَّه واستكبار علي آياته.

التوجه بهم ناموس وسنّة إلهية … ص: 84

فتأكد بذلك دلالة الحصر عن طريق التقسيم القاطع للشركة، وبيان المنطوق مع التصريح بالمفهوم، فتشير بذلك إلي مفاد الدليل العقلي السابق الدال علي حصر الطريق إلي اللَّه بآياته تعالي.

وقد ورد في الأحاديث الصحاح عن أهل البيت عليهم السلام ما يدل علي هذا الناموس

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 85

في السنن الإلهية في الدعاء ومنها:

صحيح صفوان الجمال عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كل دعاء يدعي اللَّه عز وجل به محجوب عن السماء حتي يصلي علي محمد وآل محمد» «1».

صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لا يزال الدعاء محجوبا حتي يصلي علي محمد وآل محمد» «2».

معتبرة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من دعا ولم يذكر النبي صلي الله عليه و آله رفرف الدعاء علي رأسه، فإذا ذكر النبي صلي الله عليه و آله رفع الدعاء» «3».

وغيرها من الروايات في نفس الباب.

ومضامين هذه الروايات متطابق مع الآية الكريمة في لزوم التوسل بالنبي وآله صلي الله عليه و آله لأجل حصول النيل الإلهي، وأن التوسل بهم مفتاح لأبواب السماء وتصاعد الدعاء، وأن بدونه لا تفتح أبواب السماء لا للدعاء ولا لغيره، حيث إن في الصلاة علي النبي وآله صلي الله عليه و آله ذكر له ولهم وتشفع بهم وتوجه بهم إلي اللَّه تعالي.

وإليك طائفة أخري من الروايات ذكرها صاحب الوسائل في الباب السابع والثلاثين من أبواب الدعاء وهي تؤكد

دور التوسل في الدعاء:

عن داود الرقي قال: «إني كنت أسمع أبا عبد اللَّه عليه السلام أكثر ما يلح في الدعاء علي اللَّه بحق الخمسة، يعني رسول اللَّه، وأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن والحسين عليهم السلام» «4».

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سألت النبي صلي الله عليه و آله عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه؟ قال صلي الله عليه و آله: «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 86

والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه» «1».

عن معمر بن راشد، عن الصادق عليه السلام- في حديث- قال، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكني أقول: إن آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي، فغفرها له، وأن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق، فأنجاه اللَّه منه، وأن إبراهيم لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها اللَّه عليه بردا وسلاما، وأن موسي لما ألقي عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني، فقال له اللَّه عز وجل: لا تخف، إنك أنت الأعلي» «2».

أحمد بن فهد في «عدة الداعي» عن سلمان الفارسي قال: سمعت محمداً صلي الله عليه و آله يقول: «إن اللَّه عز وجل يقول: يا عبادي، أو ليس من له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم تقضونها كرامة لشفيعهم؟ ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد وأخوه علي

ومن بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلي اللَّه، فليدعني من همته حاجة يريد نفعها أو دهمته داهية يريد كشف ضرها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن ما يقضيها من «تستشفعون له» بأعز الخلق إليه» «3».

الحسن بن علي العسكري عليه السلام في «تفسيره» عن آبائه، عن النبي صلي الله عليه و آله قال: «إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، من كانت له إليكم حاجة فسألكم بمن تحبون أجبتم دعاءه، ألا فاعلموا أن أحب عبادي إلي وأكرمهم لدي محمد وعلي حبيبي ووليي، فمن كانت له حاجة إلي فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أرد سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 87

سألني بهم فإني لا أرد دعاءه، وكيف أرد دعاء من سألني بحبيبي وصفوتي ووليي وحجتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمن سألني بهم عارفا بحقهم ومقامهم أوجبت له مني الإجابة، وكان ذلك حقا علي» «1».

وفي الرواية بيان للتلازم بين قرب المحبوب ودوره في الشفاعة، وبالتالي دوره في صيرورته وسيلة وبابا ووجها إليه تعالي، وأن ما يمارس عند البشر من التوسيط للوسائط كوسائل عند من يقصد طلب الحاجة منه وأن المحبوب باب ووجه يتوجه به، أمر فطري حكيم يمارسه الناس بقضاء فطرتهم.

عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن الرضا عليه السلام قال: «لما أشرف نوح علي الغرق دعا اللَّه بحقنا فدفع اللَّه عنه الغرق، ولما رمي إبراهيم في النار دعا اللَّه بحقنا فجعل اللَّه عليه النار بردا وسلاما، وأن موسي لما ضرب طريقا في البحر دعا اللَّه بحقنا فجعل يبسا، وأن عيسي لما أراد اليهود قتله دعا اللَّه بحقنا فنجي

من القتل فرفعه إليه» «2».

قال الحر العاملي: أقول والأحاديث في ذلك كثيرة جدا من طريق العامة والخاصة، أو في الأدعية المأثورة دلالة علي ذلك لأنها مشحونة بالتوسل بهم عليهم السلام «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 88

بحوث الآية الثانية … ص: 88
اشارة

قال اللَّه تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «1».

القاعدة الثالثة: نيل كل كمال بالاستشفاع وشفاعة النبي وأهله عليهم السلام … ص: 88
اشارة

ومقتضي مفاد الآية أن آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام كانوا علي دين محمد صلي الله عليه و آله قبل أن يبعث، إذ قد أخذ اللَّه عليهم بعد التوحيد الإقرار بنبوة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، كما هو نص الآية الشريفة، لا كما يثيره جملة من الباحثين في علم الكلام والتأريخ والسيرة من أن الرسول صلي الله عليه و آله قبل بعثته كان رسولا علي دين إبراهيم أو علي دين غيره من الأنبياء!!

إذ مقتضي الآية في سورة الأعراف أن إبراهيم كان علي دين محمد، وكذا عيسي وموسي وآدم لا العكس.

فإذا كان جميع الأنبياء من قبل علي دين النبي محمد صلي الله عليه و آله وإن كانوا علي شرائع مختلفة إلا أن دينهم دين واحد وهو دين خاتم الأنبياء، كما هو مفاد العديد من الآيات الآتية:

قوله تعالي: «انَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلَامُ» «2».

ف وقوله تعالي: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 89

وقوله تعالي: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «1».

والدين عبارة عن مجموع الأصول الاعتقادية وأركان الفروع، بخلاف الشريعة التي هي عبارة عن تفاصيل الفروع.

وأما أصول المحرمات والواجبات فإنها داخلة في الدين كذلك دون الشريعة، والمقصود من أصول المحرمات والواجبات هي أسس التحريم وأسس الواجبات، مثل تحريم الفواحش والربا، والظلم والعدوان ومثل صلة الرحم، وأداء الأمانة والوفاء بالعهد.

والمقصود بأركان الفروع هي العشرة التي منها الصلاة والزكاة

والحج والصوم.

وحيث إن ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام هي من نظام الدين لا الشريعة بنص قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا» «2».

حيث جعل تبليغه صلي الله عليه و آله لولاية علي عليه السلام إكمالا للدين، لا حكما فرعيا في تفاصيل الشريعة كما هو مفاد قوله تعالي أيضا: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وأن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»»

.فجعلت الرسالة برمتها مرهونة بإبلاغ ولاية علي عليه السلام، أي أن ولاية علي عليه السلام امتداد للتوحيد والنبوة، وهي ولاية اللَّه وولاية الرسول صلي الله عليه و آله، وكذلك مفاد قوله

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 90

تعالي: «قُل لَّاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1».

حيث جعلت المودة عدلا للكون علي جملة الرسالة بما فيها من أصول الدين، مما ينبه علي كون مودة القربي وولاية أهل البيت عليهم السلام هي من الأصول الاعتقادية.

وغيرها من الآيات الواردة في أهل البيت عليهم السلام الدالة علي أن ولايتهم عليهم السلام من أصول الدين والديانة، فإذا كان جميع الأنبياء علي دين واحد وديانة واحدة وهو دين سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله الذي تضمن ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام كأصل من أصوله، فلا محالة فإن جميع الأنبياء قد أخذ عليهم الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام أيضا، لاسيما بعد الالتفات إلي أن ولاية أهل البيت وإمامتهم عليهم السلام تأتي في ترتيب أصول الديانة بعد ولاية الرسول صلي الله عليه و آله، كما هو مقتضي جملة من الآيات كقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

وَهُمْ رَاكِعُونَ» «2»

التي نزلت في علي عليه السلام حينما تصدق بالخاتم، وقد أورد ذلك في كتب عديدة ومن الفريقين «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 92

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» «1».

وقوله تعالي: «مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «2».

وقوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ» «3»

وغيرها من الآيات.

وقد قرن أهل البيت عليهم السلام مع سيدهم سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله في آية التطهير ولم يشرك معه غيرهم، كما قرنوا تابعين معه في آية المباهلة.

وعلي ضوء ذلك:

فإذا كان جميع الأنبياء إنما قد حصلوا علي مقام النبوة وتأهلوا لذلك بالإقرار بدين خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله المتضمن لولاية أهل بيته تلو ولاية الرسول صلي الله عليه و آله، فذلك دال

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 93

علي أنهم لم يحصلوا علي تلك المقامات إلا بالإقرار بولاية الرسول وولاية أهل بيته عليهم السلام.

وهذا مما يقضي أن جميع الأنبياء والمرسلين توسلوا وتشفعوا بالنبي وأهل بيته عليهم السلام ليحصلوا علي مقام النبوة والحكمة والكتاب، ومما يدعم ذلك قوله تعالي:

«فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1».

وسوف تأتي الرواية التي رواها الحاكم النيسابوري في تفسير الآية «2».

وقد أطلق القرآن الكريم الكلمة علي عيسي كما مر، والتعبير في الآية بالكلمات لا الكلمة، ولا ريب أن الكلمة الإلهية أصدق علي

سيد الأنبياء من عيسي عليه السلام، وقد مر اقتران أهل البيت عليهم السلام بسيد الأنبياء في مقام التطهير في سورة الأحزاب «3»، وفي مقام الحجية في سورة آل عمران في آية المباهلة «4»، وفي مقام الطاعة في سورة النساء «5»، وغير ذلك من المقامات في السور القرآنية.

فتبين من ذلك أن الكلمات التي تاب اللَّه بها علي آدم بعد توسله وتشفعه هي النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

وكذلك في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 94

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1».

إذ الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وامتحن لنيل مقام الإمامة لا ريب أن أحدها هو ولاية سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، كما نصت علي ذلك آية أخذ الميثاق التي نحن بصدد الحديث عنها.

وقد مر أن مفاد الآية أخذ الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام أيضا عليهم في الميثاق؛ لأنه قد أخذ عليهم الإقرار بدين خاتم الأنبياء المتضمن لكل من ولاية اللَّه ورسوله وأهل بيته عليهم السلام، ومن ثم بين القرآن الكريم تفوق علم أهل البيت عليهم السلام- بعلم الكتاب كله- علي علم جميع الأنبياء السابقين، حيث أثبتت لهم علم بعض الكتاب، فورد في شأن أهل البيت عليهم السلام في سورة الرعد قوله تعالي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2».

والآية مكية النزول، حيث نزلت في مكة المكرمة في بدايات البعثة ناعتة لعلي بن أبي طالب عليه السلام بمن عنده علم الكتاب، والإضافة تقضي الاستغراق مع «أل» العهدية، وكذلك ورد في شأنهم قوله تعالي: «انَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم*

فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» «3».

فأثبتت الآية الكريمة أن المطهرين من هذه الأمة- الذين شهد لهم القرآن بالطهارة- ينالون ويحيطون بالقرآن كله، في مقام الكتاب المكنون، إذ قد أسند المس للكتاب كله.

وغيرها من الآيات الدالة علي علمه عليه السلام، بينما نعت القرآن الكريم العلم الذي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 95

أوتيه النبي عيسي بقوله تعالي: «وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» «1».

وقال تعالي في شأن موسي عليه السلام في التوراة التي أنزلت عليه: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيٍ» «2».

فوصف العلم في التوراة بالتبعيض، بينما نعت القرآن الكريم بأنه: «وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «3».

وأنه: «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «4».

ثم إن قضاء الضرورة الدينية بمقام الشفاعة بالنبي وأهل بيته عليهم السلام يقضي بأن يكون الطلب مباشرة من اللَّه هو من قبل الشفيع لا المشفوع له، وأن الاستغاثة بالشفيع ترجع في حقيقتها إلي طلب الشفاعة من الشفيع، بأن يشفع ويكون الطلب منه مباشرة.

وهذا المفاد ذاتي في مكونات الشفاعة، فالتوجه بالطلب والاستغاثة بالشفيع من المقتضيات الذاتية للشفاعة التي هي سنة إلهية وقرآنية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 96

سؤال حول قرب اللَّه وضرورة الواسطة إليه … ص: 96

وقد يعترض قائل بأنه كيف يدعي لزوم الحاجة إلي التوسل والتوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام في العبادة للَّه ودعائه، مع أنه تعالي قد قال: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» «1».

فإذا كان الباري تعالي قريب، فأي حجاب وحاجب بينه وبين خلقه؟ فهو لا يحتجب عن خلقه، وقد قال تعالي: «وَنَحْنُ أقرب الَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «2».

الجواب:

إن هذا القائل تخيل أن قرب اللَّه تعالي

من خلقه ملازم لقرب الخلق منه تعالي، وظن أن قرب أحد الطرفين وهو اللَّه من الآخر وهو الخلق يلازم قرب الخلق منه تعالي، وهذا التوهم مبني علي حساب أن هذا القرب قرب مكاني كقرب جسم من جسم، وتشبيه بالمواد الفيزيائية، فإن في القرب الجسماني افتراض قرب أحد الطرفين يلازم قرب الطرف الآخر، ويمتنع افتراض قرب أحدهما من الآخر وافتراض بعد الآخر من الأول.

وهذا بخلاف القرب والبعد المعنوي، فإن قرب اللَّه تعالي من خلقه بمعني نفوذ قدرته فيهم وسيطرته عليهم وقيامهم بحوله وقوته، واستعلائه علي فعله وهيمنته علي مخلوقاته.

فقربه تعالي قرب قدرة واقتدار وسيطرة واستعلاء وهيمنة وقيومية ونفوذ علم، فالخلق قائم به تعالي بحوله وقوته، وبفيض مدده يكون كل كائن، فأني للمخلوق أن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 97

يبتعد قيد شعرة عن قبضته؟! كيف وحاق كينونة ذات المخلوق بيده تعالي.

وقربه تعالي قرب القادر من العاجز، وقرب المحيط من المحاط به، وقرب الغني من الفقير، وقرب المدد من المستمد، وقرب القوي من الضعيف، وقرب القاهر من المقهور، وقرب ذي البطش النافذ من المنفوذ فيه.

فقدرته تعالي داخلة في الأشياء لا بالممازجة، وخارجة عنها لا بالمزايلة، فمن ذا يقرب من اللَّه كقربه تعالي من الأشياء، وأني للأشياء أن تقترب إليه كقربه هو منها.

بل هذا القرب منه تعالي يتلازم مع بعد الأشياء من أن تصل إلي مقامه وعلو شأنه، ومن ثم كان تعالي بعيدا في قربه وقريبا في بعده، أي أنه تعالي بعيد عن أن يضاهيه شي ء غيره، في حين أنه قريب القدرة والتصرف والنفوذ في الأشياء.

ومن ثم عمل العاملون، وعبد العابدون، وأطاع المطيعون، وتسابق المتسابقون، وتنافس المتنافسون في الاقتراب منه، كما جعلت نية الأعمال والعبادات لأجل الزلفي والقربي منه تعالي، وعلي

ضوء ذلك اختلفت درجات قرب العباد وبعدهم منه تعالي.

فهناك المقربون والسابقون الأولون وأصحاب اليمين والأبرار وأصحاب الشمال، وهناك المذحور المطرود المرجوم كإبليس الغوي الرجيم، فليس زلفي العباد علي درجة واحدة، ولأجل ذلك اختلف العطاء الإلهي والهبات منه بحسب مقامات القرب والبعد.

واختلاف المخلوقات في القرب منه تعالي والبعد لا يعني اختلاف قرب الباري منهم جميعا، بل الباري تعالي قربه من الأشياء كلها علي استواء واحد، فإن قدرته تعالي علي جميع مخلوقاته سواء العظيم منها والحقير.

فإذا تبين ذلك اتضح أن قرب الباري تعالي من العباد لا يعني استواء قربهم هم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 98

منه تعالي، وعدم وجود الحجاب بالنسبة إليه تعالي اتجاه الخلق والمخلوقات لا يعني عدم وجود الحجاب والحاجب بالنسبة إلي المخلوقات اتجاه الباري تعالي، إذ هذا هو حال المحيط والمحاط به، فإن المحيط لا يحجبه حاجب عن إدراك المحيط به والاقتدار عليه والعلم بشؤونه، لكن ضعف المحاط به أكبر حاجب عن أن يدرك ويحيط بمن هو محيط.

وبعبارة أخري: هذا هو حال القرب والبعد الناشئ من الكمال والنقص، وهذا هو معني استواء الرب تعالي علي العرش، أي عرش القدرة والعلم. واستواؤه أي سيطرته وهيمنته ونفوذ علمه وقدرته في الأشياء علي استواء وسواسية.

فإذا كانت العلاقة من طرف الخالق إلي المخلوق تختلف عن العلاقة من طرف المخلوق اتجاه الخالق، وأن المخلوقات علي اختلاف فيما بين بعضها البعض قربا وبعدا من الباري تعالي، فلا محالة كان بعضها وسيلة للبعض الآخر؛ لأن المخلوق البعيد الضعيف ليس في قابليته أن يدرك من باريه إلا فعله وهو المخلوقات العظيمة الشأن قربا، والتي تمثل آية للصفات الربانية وعلامة ودلالة للتعرف علي شأن الذات الإلهية.

فسبيل معرفة الذات الإلهية ممتنع علي المخلوقات الضعيفة لامتناع أن

تحيط بذات الباري، بل لا يمكنها إلا نيل شعاع فعل اللَّه، وهي آياته من مخلوقاته الكريمة المقربة عنده في الفيض والعطاء والهبات الإلهية.

ومن كل ذلك يتبين الضرورة العقلية للتوسل بالنبي وأهل بيته عليهم السلام والاضطرار إلي التوجه بهم في مقام المعرفة بالذات الإلهية والإيمان بها ومقام القصد في العبادة وكل أوبة إليه تعالي، ولنيل كل فيض وعطية ومقام إلهي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 99

الصفات الإلهية العظمي والحاجة إلي وساطة كلماته تعالي … ص: 99

إن هذا الشأن- ضرورة التوسل بالموجود المقدس للوصول إلي اللَّه تعالي- جار في سائر الصفات الإلهية لعدم تناهيها فضلا عن الذات الإلهية، فإن تعاظم تلك الصفات وعدم انتهائها إلي حد محدود يوجب امتناع استغراق الفكر فيها، ويحول دون استقصاء القلب لمعرفة كنهها، وبالتالي يستحيل إدراكها من المخلوقات إلا بتوسط علامات ودلائل في أفعاله تعالي، وهي مخلوقاته العظيمة، فتكون بمثابة العلامات والآيات والدلائل علي تلك الصفات، فتلك المخلوقات أسماؤه الحسني؛ لأنها سمات وعلامات ودلائل علي شموخ صفاته وتعاظمها.

بل إن هذا الشأن مقرر في أفعال اللَّه وفيضه العميم الدائم الذي لا يبيد كما تشير إلي ذلك عديد من الآيات:

قوله تعالي: «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» «1».

وقوله تعالي: «وَلَوْ إنما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «2».

وكذا قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ» «3».

فإن لفظة «شي ء» مبهمة فضلا عن إضافة لفظة «كل» التي هي من أدل ألفاظ العموم إليها.

وكذا قوله تعالي: «لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 100

أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أكبر الَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «1».

وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ

غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «2».

وغيرها من الآيات التي تصف الكتاب المبين بالإحاطة بغيب المقدرات الماضية والكائنة في المستقبل والحاصل في الحال في جميع طبقات السماء والأرض.

وكقوله تعالي في وصف نعيم الجنة: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ» «3».

وقوله تعالي: «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَي الْكَافِرِينَ النَّارُ» «4».

وقوله تعالي في وصف فاكهة الجنة: «وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لَّامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ» «5»

. وغيرها من الآيات الواصفة لعظمة أفعاله تعالي وأن فيضه عميم دائم لا يبيد ولا ينقطع، فهو دائم الفضل، فإذا كان هذا شأن فعله سواء في جانب الهداية أو العلم أو الحكمة أو النور، فمن ذا الذي يحيط بكتاب اللَّه ليزعم ويتزعم تلك المقولة «حسبنا كتاب اللَّه» متوهما أن في قدرته وإمكانه الإحاطة بكتاب اللَّه، ومن ثم إمكان التمسك بكله وأني له ذلك!!

فهو الكتاب الذي لا تنفذ كلماته ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 101

الأرض، ولا غائبة ولا كائنة إلا أحصاها.

تعليق علي مقولة الاستغراق في الرسالة دون الرسول صلي الله عليه و آله … ص: 101

ومن الذي يحيط بشريعة اللَّه ورسالته كي يزعم ويوصي بالذوبان في الرسالة والاستغراق فيها دون الاستغراق والذوبان في الرسول والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، ظنا منه أنه يحيط بالكتاب والرسالة منفكا عن النبي والأئمة والأوصياء عليهم السلام الذين هم علي اتصال بالغيوب يسترفدون من بحور غيب اللَّه مددا متصلا.

ومن ثم ركز القرآن الكريم وأصر علي لزوم الرجوع إلي ثلة من هذه الأمة، مرتبطة بغيب مقامات القرآن الكريم، يتنزل عليها تأويل الكتاب كل عام ليلة القدر وفي كل وقت، وأشار إليهم بالخصوص وشخصهم

بالتعيين حيث قال تعالي:

«انَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «1».

فأشار إلي أن القرآن الكريم المجيد في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ لا يمسه ولا يناله إلا المطهرون، وهم الذين شهد القرآن لهم بالتطهير في قوله تعالي:

«إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» «2».

فهم أهل بيت النبي وقرابته صلي الله عليه و آله.

وقال تعالي: «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأخر مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الألْبَابِ» «3».

فخص علم التأويل بالراسخين في العلم.

وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 102

إِلَّا الظَّالِمُونَ» «1».

فخص الذين أوتوا العلم بأن القرآن كله آيات بينات في صدورهم، وليس منه آيات متشابهة عندهم، بل كله آيات بينات محكمات، مما يعزز أن «الواو» في آية سورة آل عمران للعطف.

وكيف لا وقد أثبتت سورة الواقعة نيل المطهرين من أهل البيت عليهم السلام للكتاب المكنون، والمطهر غير المتطهر بالوضوء أو الغسل، كما في قوله تعالي: «انَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «2».

وكما شهد القرآن أيضا لهم في قوله تعالي: «قُلْ كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «3».

وهي آخر آية من سورة الرعد المكية نزولا، ولم يكن قد آمن أحد من النصاري واليهود في مكة قبل الهجرة، حيث ورد أنها نزلت في علي عليه السلام، وكيف لا وهو الذي احتج اللَّه به في آية المباهلة علي النصاري واليهود إلي يوم القيامة، وجعله بمنزلة نفس النبي

صلي الله عليه و آله، وقد أمر النبي صلي الله عليه و آله ببيان الكتاب كله كما في مجموعة هذه الآيات:

قوله تعالي: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «4».

وقال تعالي: «وأنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 103

يَتَفَكَّرُونَ» «1».

وقوله تعالي: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2».

فإن بيان القرآن الكريم كله من المسؤوليات الملقاة علي النبي صلي الله عليه و آله ومن بعده علي بن أبي طالب عليه السلام الذي هو بمنزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله بشهادة القرآن الكريم، وأنه لقب بأنه من عنده علم الكتاب، ومن بعده أهل البيت من ذريته عليهم السلام.

وكذا قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «3».

فبينت الآيات الكريمة أن بيان القرآن الكريم بجميع فصول معارفه من أدناها إلي أعلاها هي من وظيفة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، أي أنه الذي يحيط علما بالكتاب وبيانه، وأن تبيان القرآن يقوم به ما دام حيا، ومن بعده يقوم به أهل بيته عليهم السلام استمرارا ومواصلة لبيان القرآن الذي لا يحد ولا ينتهي، بل يتنزل تأويله في كل عام وبالتحديد في ليلة القدر، لحاجة البشر بحسب ذلك العام، ومن ثم تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بتأويل الكتاب، ومن ثم ربط بين تنزل الملائكة والروح ونزول القرآن في سورة القدر «4»، وفي سورة الدخان «5».

فالقرآن والكتاب والرسالة والدين بحر لا ينزف، وغيب لا ينقطع، ولا

الامامة

الالهية(5)، ج 5، ص: 104

يستطيع العقل بكل ما فيه إلا من له موطأ قدم في علوم الغيب، ويطلع علي الغيوب باطلاع من رب العالمين.

فمن ادعي التمسك بالكتاب من دون أن يستمسك بأصحاب القرآن، ومن ادعي الاستغراق في الرسالة والدين من دون أن يستمسك بالذين يبلغون رسالات اللَّه، فقد زيف بأراجيف قد بان عوارها «1».

علي أن تلك المقولة تستلزم الإمامة النوعية إذ لا يتقيد بالأشخاص، وبالتالي قالب الإمامة نوعي غير منحصر ومختص ولا متقيد بأشخاص، وكذلك الحال في الرسالة فيؤدي إلي النبوة النوعية، بينما شدد القرآن الكريم علي ضرورة الإيمان بالشخوص والأسماء الخاصة للأنبياء، ولم يكتف بالإيمان بالنبوة العامة من دون الإيمان بالنبوات الخاصة، وكذلك الحال في الاعتقاد بإمامة شخوص قربي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 105

النبي صلي الله عليه و آله وعددهم وعدتهم الإثني عشر، وأنه الدين القيم.

كما أن خطورة هذه المقولة هي في هدم هذا الشرط الذي هو شرط ركني في صحة وقبول الإيمان، أي هدم التوسل والالتجاء والتوجه بهم، ومن ثم فإن هذه المقولة تتظافر مع مقولة السلفية في الصد عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، وهذه هي غاية الجاحدين والمنكرين للشريعة ولولاية أهل البيت عليهم السلام «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 106

التوفيق بين قربه تعالي منا وبعدنا عنه … ص: 106

إن الباري تعالي قربه إلينا عين بعدنا عنه؛ لأنه قريب إلينا قرب قدرة واستعلاء وقاهرية، ونحن بعيدون عنه قدرة وسلطانا وقاهرية ونورا، حتي أولئك الذين يجحدون التوسل ويحاربون الواسطة بين اللَّه وخلقه، هم يقولون بالتوسل بالأعمال وسائر القربات، ومن ثم يطرح عليهم السؤال التالي:

أليس هناك مسافة من جهة العابد بينه وبين المعبود، لا من جهة المعبود للعابد؟

فمن ثم لا بد لك أن تسير علي صراط الاقتراب، بأن تهتدي إلي الصراط والطريقة والوسيلة، ومن ثم

أكدت أعظم سورة في القرآن علي لزوم الاهتداء إلي الصراط المستقيم، صراط الهداة المنعم عليهم، المعصومون من غضب اللَّه، والمعصومون من الضلال، فهم وصراطهم الوسيلة والوصلة للهداية إلي الساحة الربوبية.

فكيف يصد عنهم وقد أمر اللَّه بإتباع صراطهم والتمسك بحبلهم، فكون اللَّه قريب من جميع عباده لا يعني أن الكل مقرب، وليس الكل بدرجة إبراهيم الخليل عليه السلام، بل الأنبياء ليسوا علي درجة واحدة، إذ بعضهم أفضل من بعض، فالفاضل يتوسل بالأفضل، كما أن النبي إبراهيم يتوسل ويتبع ويستمسك بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، كما مر في آية سورة آل عمران «1» من أن جميع الأنبياء والمرسلين من آدم ونوح وإبراهيم وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام نالوا وحصلوا علي النبوة بإقرارهم بولاية سيد الأنبياء وبالتوسل به صلي الله عليه و آله.

احتياج عموم الخلق لوساطة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله … ص: 106

ومن ثم يتساءل:

لماذا الواسطة بين اللَّه وأنبيائه فضلا عما بين اللَّه وخلقه؟ بل بين آدم ونوح

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 107

وإبراهيم وموسي وعيسي وبين اللَّه فضلا عن بقية الأنبياء عليهم السلام، مع أن اللَّه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فهو تعالي أقرب شي ء إلي المخلوقات، ولا تتفاوت المخلوقات إليه في قربه منها، ومع قربه تعالي لم تحتج الأنبياء عليهم السلام كأولي العزم للواسطة، والحال أنهم أنبياء اللَّه تعالي وفي أعلي مستويات المقربين، فلم يحتاجون إلي الإيمان بنبوة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله والتذلل له بأن يقروا علي أنفسهم أنهم تابعون ناصرون له مقرون بولايته، إذ إن الناصر تابع والمنصور متبوع، والتابع مأموم والمتبوع إمام وهو سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، فهو الواسطة بين اللَّه عز وجل وبين أولي العزم من أنبيائه الذين هم عظماء الأنبياء عليهم السلام؟

الجواب:

إن الحجاب بين

المخلوق والخالق من جهة المخلوق مع الخالق لا من جهة الخالق مع المخلوق لا يعني نقص قدرة وقصور في الخالق، وإنما يعني عظم الخالق وقصور المخلوق، فالحجاب والحجب الربوبية هي من جهة المخلوقين اتجاه الخالق لا من جهة الخالق اتجاه المخلوقين، ألا تري أن الرئيس والملك ذا المهابة، والسلطان ذا الحجاب والحجب، أن حاجبه هو من جهة الرعية من دون أن يكون حجابا من جهة الملك عن أن يطلع علي الرعية.

ومن ثم يقال في اللغة السيد المحجب أي المعظم، فالحجاب في الأصل هو تعظيم لصاحب الحجاب من طرف المحجوب عنه من دون أن يكون ذلك قصورا في المحجوب ونقصا، فالحجاب يحجب من طرف دون الطرف الآخر.

فكلما تكامل المخلوق كلما عرف من كمال خالقه أكثر فأكثر، فإن الكمال الذي في المخلوق هو من فعل الخالق وهو آية لصفات الخالق، وكلما نقص كمال المخلوق كلما قلت معرفته بالخالق لقلة ما يعكسه كمال ذاته من كمال الصفات الإلهية، وعلي ضوء ذلك تفاضل الأنبياء في الفضل والكمال كما قال تعالي: «تِلْكَ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 108

الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ» «1».

وقوله تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» «2»

.فتفاوت درجاتهم وقربهم وبعدهم من اللَّه تعالي، إذ قد مر أن القرب والبعد قرب معرفة وعلم وقدرة وكمال لا قرب جغرافي وبعد جسماني، فأقربهم إلي اللَّه تعالي أكثرهم كمالا وأكثرهم معرفة، فأقرب الخلق حجاب من جهة الخلق اتجاه الرب، وهو حجاب ربوبي من جهة الخلق أيضا اتجاه الخالق.

نفي الواسطة رؤية إبليسية … ص: 108

فقرب اللَّه من خلقه قرب سيطرة وقدرة وعلو وسلطان، وكل شي ء قائم به من السماوات والأرضيين، وكل شي ء في الكون والمكان كذلك قائم باللَّه، فكيف يكون المكان محيطا باللَّه تعالي ونحن

بعيدون عن اللَّه قدرة وسلطانا وقاهرية ونورا.

فتعظيم الباري تعالي هو بأن تتوسل بواسطة قريبة، وتوسلك بتلك الواسطة إقرار علي نفسك بأنك بعيد في الصفات الحقيرة عن صفات الباري العظيمة، فالتوسل واتخاذ الواسطة والوصلة عين التعظيم لرب العزة تعالي، ورفض الواسطة كما فعل إبليس هو عين التكبر علي اللَّه تعالي، واستنقاص عظمة الباري، كقول إبليس عندما خوطب من قبل اللَّه بأن يتوجه بآدم عليه السلام في سجوده، حيث قال الباري تعالي: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 109

وقال تعالي: «قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا» «1».

فإن إبليس رأي التعاظم من ذات نفسه، ورأي أن لا حجاب بينه وبين الحضرة الربوبية، وهذه الرؤية الإبليسية في الحقيقة استنقاص لمقام الذات الإلهية؛ لأنه يري أن بكمال ذاته المحدودة يتعرف علي كل صفات الرب مع أن كمال إبليس في الخلقة ناقص ومنحدر.

فمن ثم كان التكبر من جذور الكفر، والعبودية والتواضع من جذور التوحيد، إذ في العبودية سر وهو الاعتراف بالنقص والفقر الذي هو بدوره اعتراف بتعاظم عظمة الباري.

فتبين أن التوسل من صميم جوهر التوحيد، وجحود التوسل من صميم جوهر الكفر، ومن ثم مر في آية سورة النساء «2» تقديم الباري مجي مذنبي الأمة إلي الرسول صلي الله عليه و آله علي استغفارهم وندامتهم، إذ بالمجي إلي النبي صلي الله عليه و آله إقرار منهم بالبعد من ساحة الباري، بخلاف مقولة إبليس «أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ» «3»

، بل يقرون علي أنفسهم بالنقص والاحتجاب، وهو تعظيم للباري تعالي.

النبي وأهل بيته عليهم السلام الأبواب والحجب والسدنة … ص: 109

فالإيمان بوجود الحجب الإلهية من جهة المخلوق اتجاه الخالق هو من الاعتقاد بعظمة الباري وعلوه، ألا تري إلي قوله تعالي: «انَّ

الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 110

وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

ألا تري أن الآية تثبت بين المخلوقين من جهتهم والخالق أبوابا هي حجب مسدودة مفتاحها التصديق بحجج اللَّه المصطفين، والخضوع والتواضع لهم، لا كما فعل إبليس من التكذيب والجحود بمقام خلافة آدم عليه السلام، واستكباره عن السجود والخضوع لولاية آدم، ولا كما فعل المنافقون كما في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2».

بل بالتصديق بحجج اللَّه الذين اجتباهم واصطفاهم وطهرهم، بالانقياد لولايتهم والتوجه والتوسل بهم، ليكون ذلك مفتاحا وفتحا لأبواب السماوات، فالآية لا تثبت بابا واحدا بل أبوابا، وهذه الأبواب حجب لسماوات الحضرة الإلهية؛ لأن الباب بمعني الحجاب، فإذا قصد وفتح صار وسيلة ووصلة إلي الهدف، وإذا صد واعرض عنه صار حجابا وسدا.

فوجود الأبواب بين المخلوق من جهته إلي الخالق عقيدة قرآنية أصيلة ومعتقد إسلامي أصيل، والتنكر له جحود لعقيدة ركن في نظام السنة الإلهية.

ومع الإقرار بأن لسموات الحضرة الإلهية والسدانة الربوبية أبوابا، لا بد من طلب المفتاح لتلك الأبواب، والوسيلة لفتحه والتوجه إلي تلك الأبواب، وليس لك أن تتجهم أن تواجه ربك بأن تخاطب الرب تعالي من دون أن تتوسل إليه بتلك المفاتيح.

وإذا كان عيسي بن مريم وأمه آية كما في قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 111

آيَة» «1»

.فكيف بسيد الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام!

وقد احتج اللَّه بالنبي وأهل بيته الخمسة من أصحاب الكساء عليهم السلام حججه علي العالمين إلي قيام يوم الدين في آية المباهلة، كما اصطفاهم في آية التطهير.

وقد جعلت الآية في سورة الأعراف

المتقدمة مفتاح أبواب السموات التصديق بآيات عديدة وليست بآية واحدة، فالإيمان بحجج اللَّه والتصديق بهم والتوجه بهم إلي اللَّه مفتاح أبواب السماء، ألا تري إلي قوله تعالي في القبلة التي يتوجه إليها في الصلاة إلي اللَّه «وهي الكعبة» وقد كان المسلمون يتوجهون إلي بيت المقدس، كما في قوله تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ» «2».

أي ما جعلنا وفرضنا استقبال القبلة إلا لنعلم من ينقاد إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فجعل القبلة غايته الانقياد إلي النبي صلي الله عليه و آله، في مقابل من ينقلب علي عقيبيه، كما في قوله تعالي: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإن مَّاتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَيَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ» «3».

فباب استقبال القبلة والتوجه إليها هو التوجه بالنبي صلي الله عليه و آله إلي اللَّه تعالي.

وقد كان الامتحان صعبا علي قريش إذ كانت قبلتهم التي ورثوها من ملة إبراهيم وإسماعيل هي الكعبة، فتبدلت إلي بيت المقدس في أوائل الإسلام، واختيار هذا الامتحان الصعب لقريش غايته هو معرفة انقيادهم وتبعيتهم لخاتم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 112

الأنبياء صلي الله عليه و آله.

وقد أشار الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في دعائه في يوم عرفة إلي ذلك حيث يقول: «ولا تردني صفرا مما ينقلب به المتعبدون لك من عبادك، وإني وإن لم أقدم ما قدموه من الصالحات فقد قدمت توحيدك، ونفي الأضداد والأنداد والأشباه عنك، وأتيتك من الأبواب التي أمرت أن تؤتي منها، وتقربت إليك بما لا يقرب به أحد منك إلا بالتقرب به، ثم اتبعت ذلك

بالإنابة إليك، والتذلل والاستكانة لك» «1».

وقد كان قد قدم في أول دعائه الحمد والثناء علي اللَّه بالتوحيد والنعت بالصفات الإلهية، ثم أردف ذلك بالإطالة في الصلاة علي النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام ووصفهم بالوسيلة.

فهو يشير بذلك إتيان اللَّه من الأبواب التي أمر بها والتي لا يمكن التقرب إلا منها، كما يشير صلي الله عليه و آله أن بالتوسل والتوجه بهم تتحقق الخطوة الأولي المقدمة علي شرائط التوبة، والتي يستأهل المذنب بذلك أن يشرع في الاستغفار والندم والتوبة، وهو مطابق للآية المتقدمة وهي قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «2».

فما في دعائه صلي الله عليه و آله يشير ويفسر الترتيب في الآية، بأن المجي إلي النبي واللواذ به والالتجاء إليه والاستعاذة به جعل بابا للوفود والأوبة إلي الحضرة الإلهية، ومن ثم بدأ به في الآية لأنه باب للاستغفار.

الشفاعة فعل تكويني … ص: 112

إن طلب الشفاعة في الحقيقة يرجع إلي نمط من الاستغاثة؛ لأن تشفع الشافع

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 113

غوث وإغاثة للمشفوع له، وهذا لا يتنافي مع كون مصدر الإنعام والفضل والشفاعة كلها بيد اللَّه تعالي، وأن كل حول وقوة منه تعالي، لكن جرت سنته تعالي علي إجراء الفضل بيد كرام خلقه عليه والمقربين لديه.

وفي الحقيقة فإن الشفاعة من الشافع إذا كانت تكوينية تكون في الحقيقة إيجاد من الشافع للشي المراد بإذن اللَّه تعالي، والشافع يكون مجري لفيض اللَّه تعالي، كما هو الحال في حقيقة المعجزة التي يجريها اللَّه علي يد صاحب المعجزة.

فكما تعددت الرؤي والنظريات في حقيقة المعجزة، هل هي مجرد سؤال من صاحب المعجزة ودعاء

منه بإنشاء الكلام؟ أم أنه مقام تمكين يوهب له من اللَّه تعالي، ويستفيض مدده من الباري تعالي؟

بل وقع هذا التحليل في تفسير مقام مستجاب الدعوة وكرامات الأولياء، هل هي بإنشاء لفظي وطلب اعتباري؟ أم أنه مقام تمكين وإقدار إلهي يوهب منه تعالي لذلك الولي؟

وهناك قول ثالث يزاوج بين القولين السابقين، فإنه يتقدم الدعاء اللفظي والتوجه القلبي إلي الحضرة الربوبية، ومن ثم يفاض منه تعالي القدرة علي نفس الولي تكوينا، فينال مقام التمكين والاقتدار علي الفعل.

بل إن تضرع الداعي والتجاءه إلي الحضرة الإلهية هو السبب في استدرار الفيض والرحمة الإلهية، أي سبب قابلي واستعدادي للجود الرباني، فإن الجود والفضل الإلهي دائم وحتميٌ إذا تمت قابلية القابل، إذ لا بخل في الحضرة الإلهية ولا عجز.

ومن ذلك يرتفع توهم أن تشفع الشافع عبارة عن مجرد مسألة وطلب لفظي منه يتوجه بها إلي الحضرة الإلهية، فإن روح وحقيقة الدعاء هو الطلب من الحضرة الإلهية وليست مجرد تمتمة لفظية، وإنما قوامه التوجه القلبي والضراعة الروحية من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 114

الداعي حينما يولي وجه قلبه شطر وجه الرب تعالي، وهو وصول إلي حد من حدود العبودية التي تستمطر الفيض التكويني الربوبي.

فالقول الثالث قول متين يجمع ويزاوج بين خصائص القولين الأولين، فيجمع بين حال العبودية والضراعة الفطرية للمخلوق وحال الإفاضة الإقدارية الربانية، وأن حقيقة الشفاعة والمعجزة ومقام استجاب الدعوة مقامات تكوينية وهبية منه تعالي.

طلب الشفاعة تعلق بالاسم الإلهي التكويني … ص: 114

إن الشفاعة هي الوساطة وطلب الشفيع من المشفوع إليه أو المشفوع عنده لقضاء حاجة المشفوع له، فالاستشفاع هو بعينه توسل، فصاحب الشفاعة هو الوسيلة والمتوسل إليه هو الباري تعالي، وهو بعينه استغاثة إلي اللَّه تعالي بالوسيلة وبالوجيه عند اللَّه.

وقد أشار السيد العلامة الطباطبائي في الميزان إلي أن الشفاعة

ترجع حقيقتها إلي الشفع في الأسماء، أي الاقتران، وبالتالي يكون الأثر لمجموع الاسمين، أي أن الذي يتوجه بالشفيع إلي اللَّه يتوجه باسم إلهي ليقترن مع اسم آخر ليكون نجحا لحاجته بالأسماء الإلهية إلي اللَّه، أي توجه إلي اللَّه بأسمائه الحسني «1».

وقد مر أن المخلوقات العظيمة التي لها القربي والزلفي والوجاهة عند اللَّه هي الأسماء الإلهية التي يتوجه بها إلي اللَّه تعالي ويدعي بها.

ومن ثم الاستشفاع بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، والذي قد وصفه الباري تعالي بأنه رحمة للعالمين وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، استشفاع بالرحمة الإلهية وباسمه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 115

الرؤوف الرحيم.

استعراض بعض روايات المقام … ص: 115

وفي ما يلي نستعرض بعض روايات الشفاعة من كتب الفريقين:

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب، وأحل لي المغنم، وأعطيت جوامع الكلم، وأعطيت الشفاعة» «1».

تدل الرواية علي أن الشفاعة تكوينية؛ لأنها عطفت علي مقام جوامع الكلم، ولأن جوامع الكلم عبارة عن الكلمات التكوينية، وجوامعها عبارة عن التوفر علي كمالات وقدرات الكلمات التامات وقدرات الآيات العظمي.

ورد في الاحتجاج عنه عليه السلام: «السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة» «2».

فصفة الحجة المنتظر بأنه الغوث، وهي دالة علي أنه من شؤونه ونعوته ومقاماته أنه يستغاث به ويلتجأ إليه في طلب الحاجة.

حدثنا علي بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه أن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلَّت

له شفاعتي يوم القيامة» «3».

حدثنا العباس العنبري، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 116

قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

وفي الباب عن جابر هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 117

الوجه الثامن: بحث الكلمات … ص: 117

اشارة

ويتحصل من آيات الكلمات أن الكلمات التي يتوسل بها إلي اللَّه تعالي ويتوجه بها إليه لنيل كل نائلة وللاحتظاء بالزلفي والقربي هي النبي وأهل بيته عليهم السلام.

آيات قرآنية في الكلمات الإلهية … ص: 117
اشارة

قال اللَّه تعالي: «فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»».

وقال تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2».

وقال تعالي: «فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «3».

وقال تعالي: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَي مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّي أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ» «4»

.وقال تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 118

الْعَلِيمُ» «1».

وقال تعالي: «لَهُمُ الْبُشْرَي فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «2».

وقال تعالي: «وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» «3».

وقال تعالي: «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا» «4».

وقال تعالي: «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» «5».

وقال تعالي: «وَلَوْ إنما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «6».

وقال تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَي اللّهِ إِلَّا الْحَقِّ إنما الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إنما اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَي بِاللّهِ وَكِيلًا»

«7».

ومن مجموع هذه الآيات يظهر أن الكلمة أطلقت علي من هو حجة مصطفي لديه تعالي، ومن ثم عبر في آيات أخري بتصديق تلك الكلمات، أي الإيمان بمن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 119

هو حجة إلهية، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» «1».

فقوبل في الآية بين الكتب والكلمات وأسند التصديق إلي الكلمات، مما يدل علي الإيمان بالحجج الإلهية المصطفين.

فتبين أن الكلمة الإلهية تطلق في الاستعمال القرآني علي الحجج الإلهية، وهذا هو الأصل في معناها الحقيقي، إذ الكلمة هي الشي الدال علي المعني أو الشي المضمر أو الغائب، وحينما تكون دلالة الشي الدال دلالة تكوينية لا بتوسط الاعتبار الأدبي تكون الدلالة حقيقية، وإطلاق الكلمة علي الدال حقيقة واقعة، بخلاف إطلاق الكلمة علي الدال بالاعتبار الأدبي، فإنه إطلاق مجازي عقلائي.

تحقيق في معني الكلمة في القرآن … ص: 119

ولا يخفي أن هناك تقارب بين معني الكلمة والاسم والآية، فإن كلًّا من الثلاث فيه معني العلامية والدلالة، فمن ثم يتطابق الاستعمال في هذه الطائفة من الآيات مع الطوائف السابقة في الأسماء والآيات.

ويتبين حينئذ أن معني حصول توبة اللَّه تعالي علي آدم عليه السلام بتوسط الكلمات، دال علي أن الكلمات وسيلة آدم عليه السلام في التوجه إلي اللَّه تعالي وأوبته ورجوعه، وأنه بتوسط تلك الكلمات عندما توجه آدم بها قبلت توبته منه تعالي.

والتدبر في هذه الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام يعطي تطابقها مع الأسماء التي علمها اللَّه إياه، من كون تلك الكلمات والأسماء حقيقة واحدة غيبية هي غيب السموات والأرض من عالم ملكوت السماوات والأرض، حيث إن الاسم كما مرَّ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 120

يطابق معني الكلمة الإلهية، فإن كلًا منهما علامة وآية

علي الصفات والذات الإلهية.

حيث إنه قد وصفت تلك الأسماء وأشير إليها بضمير العاقل والشاعر كما في قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ» «1».

وقوله تعالي: «فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء» «2».

وقوله تعالي: «قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ» «3».

مما يدل علي أن هذه الحقائق هي أنوار ذوات الحجج الإلهية المصطفين من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، وهم الذين شرف آدم عليه السلام بتعليمه إياهم، وهذه الأنوار الإلهية وصفها تعالي بقوله: «قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» «4».

وهذه الذوات النورية كما هي أسماء إلهية فإن لها بدورها أسماء تظهر بها، فمن ثم تغاير التعبير في آيات قصة آدم عليه السلام، حيث ورد التعبير الأول عنها أنها أسماء، ثم بعد عرضهم علي الملائكة عبر عنها بقوله تعالي: «فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء» «5».

حيث أضيف إلي ذوات هذه الأسماء أن لها أسماء.

ولا يخفي أن هذه الذوات الشريفة كما أطلق عليها أنها أسماء إلهية، ولها أسماء أطلق عليها أنها كلمات إلهية.

والظاهر أن التغاير حيثي بين الأسماء والكلمات، فإن تلك الذوات النورية الشريفة المخلوقة آيات إلهية، فمن حيث حكايتها عن الصفات والذات الإلهية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 121

حكاية الاسم عن المسمي هي أسماء، وبالنظر إلي ذواتها بما هي هي، أي إذا أمعن النظر إلي ذاتها أولًا ثم أنتقل منها إلي دلالتها علي الصفات والذات الإلهية يطلق عليها حينئذ الكلمات.

أو لعلَّ هذه الذوات الشريفة ذات مراتب، ففي أوائل مراتب صدورها عن الباري- وهي أعالي ومعالي مراتبها- يطلق عليها أسماء إلهية، نظرا لجامعيتها للكمالات، وبالتالي شفافيتها في حكاية العظمة الإلهية، بخلاف مراتبها اللاحقة فإنها وإن كانت

علي جانبٍ من تمامية الكمال الخلقي؛ إلا أنها دون المراتب الأولي، وبالتالي فهي دونها في الحكاية والإراءة للشؤون الإلهية والربوبية، فمن ثم كانت تلك المراتب كلمات.

ومن ذلك يتنبه إلي أن الكلمات التي ابتُلي وامتُحن بها إبراهيم عليه السلام لكي ينال مقام الإمامة؛ هي عبارة عن امتحانه بجملة من الآيات الخلقية، وهي من الحجج التي اصطفاها اللَّه تعالي فوق مرتبة النبي إبراهيم عليه السلام.

وقد أشار قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وأناْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

. حيث بينت الآية أن النبي إبراهيم عليه السلام وغيره من المرسلين؛ لم يعطوا مقام النبوة والرسالة والكتاب والحكمة إلا بعد أخذ العهد منهم والالتزام بأن يؤمنوا بخاتم الأنبياء، ويلتزموا ويتعهدوا بنصرته ومتابعته والانقياد إليه وطاعته.

فلا ريب أن أول الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وامتحن كي ينال مقام الإمامة هي امتحانه بقبول الإذعان والانقياد لولاية خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 122

ولا ريب أن بقية تلك الكلمات التي امتحن بها إبراهيم عليه السلام ليتأهل للإمامة هي أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله، وذلك لإشراك اللَّه تعالي إياهم لخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله في مواطن عديدة، منها مقام العصمة والتطهير في آية التطهير كما في قوله تعالي: «إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» «1».

ومنها مقام الحجية كما في قوله تعالي: «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ» «2».

فأشركت الآية أهل البيت عليهم السلام بالنبي

صلي الله عليه و آله في مقام الحجية علي العالمين، كما أنها نزلت نفس علي أمير المؤمنين عليه السلام منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله، كما أنه في آية الفي والخمس والشهادة علي أعمال العباد قرن أهل البيت عليهم السلام بالنبي في تلك المقامات.

وكذلك في مقام العلم بالكتاب وغيرها من المقامات التي أشاد بها القرآن الكريم في النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

كل ذلك مما يبرهن أن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وامتحن هي انقياده لولاية خاتم الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام، فبطاعته لهم استأهل مقام الإمامة.

ويتحصل من آيات الكلمات أن الكلمات التي يتوسل بها إلي اللَّه تعالي، ويتوجه بها إليه لنيل كل نائلة، وللاحتظاء بالزلفي والقربي؛ هي النبي وأهل بيته عليهم السلام.

وقد ورد في روايات الفريقين أن اللَّه تعالي قبل توبة آدم عليه السلام عندما توجه بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، فقد نُقل أن آدم عليه السلام لما اقترف الخطيئة قال: «يا ربي، أسألك بحق محمد صلي الله عليه و آله لما غفرت لي» فقال: «يا آدم، كيف عرفت؟» قال: «لأنك لما خلقتني نظرت إلي العرش فوجدت مكتوبا فيه: «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» فرأيت اسمه مقرونا مع اسمك،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 123

فعرفته أحب الخلق إليك» «1».

هذا ما ذكره الحاكم في مستدركه، وفي رسائل المرتضي:

«إن آدم رأي مكتوبا علي العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له هذه أسماء أجلِّ الخلق منزلة عند اللَّه تعالي، وأمكنهم مكانة، ذلك بأعظم الثناء والتفخيم والتعظيم، أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم، فحينئذ سأل آدم عليه السلام ربه تعالي وجعلهم الوسيلة في قبول

توبته ورفع منزلته» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 125

الوجه التاسع: دلالة القصد إلي الحج وأداء المناسك علي ضرورة التوسل بحضرتهم … ص: 125

اشارة

فمركز رحي الدين مودة آل إبراهيم وآل إسماعيل وهم آل محمد صلي الله عليه و آله، وصار التوجه إلي بيت اللَّه الحرام، والتوجه إلي إقامة شعائر الدين هو توجه إليهم، فهذه هي غاية الحج وغاية الشعائر وتشييد الدين، وهي التوجه إليهم وبهم إلي اللَّه تعالي.

غاية الحج وكماله أن ينفر الناس إلي أهل البيت عليهم السلام، ويقصدوهم ويتوجهوا إليهم وبهم إلي اللَّه تعالي.

وقد أشير إلي ذلك في آيات الحج المبينة لفلسفته ولأعماله وأركانه، وجعل في جملة المشاعر والأعمال بصمات وعلامات وآيات ترشد الحاج والمعتمر والناسك إلي التوسل والتوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام إلي اللَّه تعالي.

وأما الآيات، فمنها قوله تعالي علي لسان النبي إبراهيم عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فإنه مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فإنكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 126

إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1».

وللتدبر في معني الآية لا بد من التركيز علي جملة من النقاط:

الأولي: ما هي الغاية من إسكان النبي إبراهيم عليه السلام أهله في الوادي الذي هو حرم مكة عند بيت اللَّه، أي المسجد الحرام؟ وقد كان إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر اتخذا المسجد الحرام بيتا لهما، وقد سمي حجر إسماعيل بذلك؛ لأنه كان من المرافق التي يستخدمها إسماعيل في شؤون حياته، وتجيب الآية عن الغاية علي لسان النبي إبراهيم عليه السلام في قوله تعالي: «لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ

لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «2».

وفي قوله تعالي: «وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «3».

فجعل الغاية من إسكان أهله في حرم البيت هو إحياء بيت اللَّه الرحمن بإقامة الصلاة وسائر العبادات ومعالم الشريعة، فيحيوا شعائر التوحيد ومعالمه.

الثانية: إن الذي قام به إبراهيم من إسكان هاجر وإسماعيل الطفل الصغير- من دون وجود قرية أو قبيلة أو مأوي أو حمي أو كفيل أو ضامن في وادي غير ذي زرع، وقد كان موضعا قاحلا وواديا قفرا لا ماء ولا كلأ- امتحان صعب وفداء وتضحية عظيمة، إلا أن المهم أن يُشيد التوحيد والدين في تلك البقعة المقدسة كمركز انطلاق، وقد جعل علي عاتق ذرية إبراهيم عليه السلام.

الثالثة: ثم عطف كغاية مرتبة علي تلك الغاية: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 127

فسواء جعلت الفاء للترتب وترتيب الغاية تلو الغاية، أو لترتيب السبب علي المسبب «1»، أي أن السبيل لتشييد الدين هو أن تهوي الأفئدة إلي تلك الذرية، إذ الضمير في «تهوي» يعود إلي الذرية التي اسكنها إبراهيم عليه السلام ذلك الوادي، أي إسماعيل ومن يتوالد منه.

وهذه الذرية قد دعا في حقها إبراهيم وإسماعيل دعوات أخري كما في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2».

فدعا بأن تكون الإمامة الإلهية في نسله من إسماعيل عليه السلام إلي يوم القيامة، ثم قال تعالي بعد تلك الآية مباشرة: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ

مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَي عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ» «3».

فوحدة سياق الآيات يقضي بأن الذرية التي دعا إبراهيم بأن تكون الإمامة فيها هي التي اسكنها عند البيت المحرم، وهي في البلد الذي دعا أن يكون آمنا،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 128

وهي الذرية التي دعا إبراهيم وإسماعيل أن تكون فيها أمة مسلمة، أي علي درجة من التسليم في الإسلام علي حذو وصف إبراهيم وإسماعيل بالمسلمين.

فهي الذرية من نسل إسماعيل التي بقيت الإمامة في عقبه باستجابة دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خصوص الذرية الطاهرة من نسل إسماعيل، وهم المعنيون في آخر سورة الحج: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ» «1».

وهم المصطفون المجتبون من قبل اللَّه تعالي للإمامة وللشهادة علي أعمال الخلق، ويكون الرسول صلي الله عليه و آله عليهم شهيدا، فهم ذو وصلة بسيد الرسل صلي الله عليه و آله، وهناك تطابق واضح بين آية دعاء إبراهيم: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».

وبين قوله تعالي: «قُل لَّاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2».

فإن قربي النبي صلي الله عليه و آله كما فرض اللَّه علي الخلق مودتهم، بين علي لسان إبراهيم عليه السلام في دعائه للَّه تعالي بأن تهوي قلوب الخلق إليهم، وهو

معني المودة والمحبة إلي ذريته من نسل إسماعيل، الذين دعا في شأنهم بأن تكون الإمامة فيهم، وهم المجتبون المسمون بالأمة المسلمة.

فجعلت مودتهم وهوي قلوب الخلق إليهم غاية لتشييد الدين.

والإسكان كان بأمر من اللَّه تعالي، فبين إبراهيم الغاية من أمر اللَّه تعالي بالإسكان، وهي إحياء شعائر ومعالم الدين من الصلاة والحج وتعظيم بيت اللَّه الحرام.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 129

ويترتب علي ذلك ثمرة وفائدة قصوي تتمثل في قوله تعالي: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».

سواء جعلنا حرف «الفاء» لترتيب الغاية علي الغاية أي المسبب علي السبب، أو لترتب السبب علي المسبب.

لاسيما وأن تشييد الدين قد جعل فعلا تقوم به تلك الذرية، أي إن إشادة الدين لا يتم إلا بتوسطهم وعلي يدهم ومن المسؤوليات الملقاة علي عاتقهم، وهو بمعني إمامتهم للخلق وهدايتهم له.

فمن ثم لا بد من أن تهوي إليهم أفئدة من الناس وهم أهل الإيمان خاصة، ولا بد أن يفترض اللَّه مودتهم علي الخلق لينقادوا لهم ويتبعونهم.

فصار محور الصلاة والحج ومحور إقامة وإحياء شعائر ومعالم الدين من المسجد الحرام هو مودة قربي النبي صلي الله عليه و آله، وهوي أفئدة من الناس إليهم، أي ولايتهم.

فمركز رحي الدين مودة آل إبراهيم وآل إسماعيل وهم آل محمد عليهم السلام، وصار التوجه إلي بيت اللَّه الحرام والتوجه إلي إقامة شعائر الدين هو توجه إليهم، فهذه هي غاية الحج وغاية الشعائر وتشييد الدين، وهي التوجه إليهم وبهم إلي اللَّه تعالي.

وقد أشير في كلام الباقر عليه السلام إلي برهان تاريخي أدياني من السيرة، وهو الذي أشار إليه عليه السلام فيما رواه الكليني في الصحيح عن الفضيل عن أبي جعفر عليه السلام نظر إلي الناس يطوفون حول الكعبة، فقال: «هكذا كانوا يطوفون في

الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ هذه الآية: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1».

وفي مصحح أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام ورأي الناس بمكة وما

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 130

يعملون، قال فقال: «كفعال الجاهلية، أما واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم، فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» «1».

وفي رواية سدير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال يا سدير: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيعرضوا فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: «وإني لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي* ثم أومأ بيده إلي صدره إلي ولايتنا»».

فيشير عليه السلام فيما مر إلي برهان من الملة الحنيفية الإبراهيمية، ويتضح هذا البرهان بالإجابة علي التساؤل عن الفرق بين حج المشركين وحج المسلمين، وكيف تحول الحج الإبراهيمي «حج إبراهيم وإسماعيل» الذي توارثته قريش، من حج إبراهيمي إلي حج شرك وإشراك، ثم تبدل وعاد إلي الحج علي الحنيفية البيضاء وهو الحج المحمدي «حج المسلمين»؟ حيث إن المشركين كانوا في حجهم يتجردون عن الثياب فيحرمون ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون بعرفات، ويزدلفون للمشعر الحرام، ويقربون القرابين في مني، فيأتون بكل تلك الطقوس والنسك التي تشاهد من المسلمين، فما الذي أوجد الفرق بين حج المشركين وحج المسلمين؟ وما الذي أوجد الفرق بين حج إبراهيم وحج المشركين؟

الجواب: لو فتشنا عن الفرق- بعد الالتفات إلي أن المشركين لا ينكرون أصل وجود اللَّه، وإنما يتقربون إليه بالأصنام والأوثان اقتراحا منهم علي ربهم- لا نجده إلا في نبذ المشركين ولاية إبراهيم وإسماعيل والذرية الطاهرة من إسماعيل

إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 131

ولاية الأصنام والأوثان، أي أنهم تركوا ما هو الغاية من الحج الذي بينه اللَّه تعالي علي لسان إبراهيم عليه السلام في قوله تعالي: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1».

كما لا نجد الفرق من جانب حج المشركين مع حج المسلمين بعد أن خاطب اللَّه عز وجل المسلمين بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إنما الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وأن خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» «2».

فنهي اللَّه عز وجل عن إحرام المشركين، وعد طوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة ووقوفهم بالمشاعر وتقديمهم القرابين ورميهم للجمرات وصلاتهم بالبيت اتجاه الكعبة وصدقاتهم واعتكافهم من المنهي عنه، مع أنه في الصورة يشابه أفعال المسلمين، بينما شرَّع ذلك للمسلمين، وليس الفارق إلا إذعان المسلمين لولاية رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وإقرارهم بالشهادة الثانية ونبذهم لولاية الأصنام والأوثان التي لم ينزل اللَّه بها من سلطان.

أي أن المسلمين في عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عملوا وأوفوا بما هو عماد وركن الحج الركين، وهو هوي أفئدتهم إلي الذرية الطاهرة التي هي محل استجابة دعوة إبراهيم بالإمامة والمودة لهم، فوفوا بما هو الغاية من الحج، ومن ثم صار حجهم علي نهج حج إبراهيم.

فهذا برهان تاريخي أدياني تقتضيه الملة الحنيفية، دال علي أن الحج وأعماله ونسكه من دون تولي وولاية الذرية المجتباة من نسل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 132

يقضي بكون أفعال الحج والعبادات كفعال المشركين.

وهذا هو الذي أشار إليه الإمام الباقر عليه السلام كبرهان تاريخي في

الملة داعما لمفاد الآية الكريمة التي هي دليل قرآني أول.

ثم أشار عليه السلام في الروايات إلي دليل ثاني وهو قوله تعالي: «واني لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1».

أي أن المغفرة يشترط فيها أربعة شروط، والشرط الرابع هو الهداية مضافا إلي الإيمان والتوبة والعمل الصالح.

ومن الواضح أن هذه الهداية أمر وراء أصل الإيمان باللَّه تعالي وبرسوله صلي الله عليه و آله، كما تشير إلي ذلك سورة الحمد، فبعد أن استعرضت التوحيد والنبوة والمعاد أشارت في ذيلها إلي أن النجاة يشترط فيها الاهتداء إلي صراط ومنهاج ثلة قد أنعم اللَّه عليهم وعصمهم من الغضب الإلهي ومن أن يضلوا.

وفي مصحح زيد الشحام قال: دخل قتادة بن دعامة علي أبي جعفر عليه السلام فقال:

«يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: هكذا يزعمون فقال أبو جعفر عليه السلام: بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر؟ بعلم تفسره أم بجهل؟ قال: لا بعلم، فقال له أبو جعفر عليه السلام: فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك؟ قال قتادة: سل قال: أخبرني عن قول اللَّه عز وجل في سبأ: «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتي يرجع إلي أهله، فقال أبو جعفر عليه السلام: نشدتك اللَّه يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة: اللهم نعم، فقال أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 133

قتادة إن كنت إنما فسرت

القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وأن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقنا يهوانا قلبه كما قال اللَّه عز وجل: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» فنحن واللَّه دعوة إبراهيم عليه السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلا فلا، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة، قال قتادة: لا جرم واللَّه لا فسرتها إلا هكذا، فقال أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به» «1».

وفي هذه الرواية مضافا إلي الأدلة السابقة، يشير عليه السلام إلي دليل آخر وهو قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًي ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» «2».

وكذا قوله تعالي: «انَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» «3».

وقد أشير إلي هذا الدليل في رواية أخري عن الصادق في حواره مع أبي حنيفة كما في علل الشرائع، قال: «حدثنا أبو زهير بن شبيب بن أنس عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام إذ دخل عليه غلام من كندة فاستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام والمسألة فقدمت الكوفة، فدخلت علي أبي حنيفة فإذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها، فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد اللَّه عليه السلام، فقمت إليه فقلت ويلك يا أبا حنيفة إني كنت العام حاجا فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام مسلّماً عليه فوجدت هذا الغلام

يستفتيه في هذه المسألة بعينها فأفتاه بخلاف ما أفتيته، فقال: وما يعلم جعفر بن محمد أنا أعلم منه، أنا لقيت الرجال وسمعت من أفواههم، وجعفر بن محمد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 134

صحفي أخذ العلم من الكتب! فقلت في نفسي واللَّه لأحجن ولو حبوا. قال فكنت في طلب حجة، فجاءتني حجة فحججت، فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام فحكيت له الكلام فضحك ثم قال: أما في قوله إني رجل صحفي فقد صدق قرأت صحف آبائي إبراهيم وموسي، فقلت ومن له بمثل تلك الصحف، قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق وكان عنده جماعة من أصحابه فقال الغلام انظر من ذا فرجع الغلام فقال أبو حنيفة، قال أدخله فدخل فسلم علي أبي عبد اللَّه عليه السلام فرد عليه، ثم قال أصلحك اللَّه أتأذن في القعود؟ فأقبل علي أصحابه يحدثهم ولم يلتفت إليه، ثم قال الثانية والثالثة فلم يلتفت إليه، فجلس أبو حنيفة من غير إذنه، فلما علم أنه قد جلس التفت إليه فقال: أين أبو حنيفة؟ فقيل هو ذا أصلحك اللَّه، فقال أنت فقيه أهل العراق؟ قال نعم، قال: بما تفتيهم؟ قال: بكتاب اللَّه وسنة نبيه صلي الله عليه و آله. قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب اللَّه حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال نعم، قال: يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما، ويلك ما جعل اللَّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلي الله عليه و آله ما ورثك اللَّه من كتابه حرفا فإن كنت كما تقول ولست كما تقول فاخبرني عن قول اللَّه عز وجل: «سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» أين ذلك من الأرض؟

قال حسبه ما

بين مكة والمدينة، فالتفت أبو عبد اللَّه عليه السلام إلي أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون علي أنفسهم ويقتلون؟

قالوا نعم، قال فسكت أبو حنيفة، فقال يا أبا حنيفة أخبرني عن قول اللَّه صلي الله عليه و آله: «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» أين ذلك من الأرض؟ قال: الكعبة، قال أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق علي ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها؟ قال: فسكت، ثم قال له يا أبا حنيفة، إذا ورد عليك شي ء ليس في كتاب اللَّه ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال أصلحك اللَّه: أقيس وأعمل فيه برأيي، قال يا أبا حنيفة: إن أول من قاس إبليس الملعون قاس علي ربنا تبارك وتعالي فقال: «أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» فسكت أبو حنيفة، فقال يا أبا حنيفة أيما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال البول، فقال: فما بال

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 135

الناس يغتسلون من الجناية ولا يغتسلون من البول؟ فسكت، فقال يا أبا حنيفة أيما أفضل الصلاة أم الصوم؟ قال الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟

فسكت، فقال يا أبا حنيفة: أخبرني عن رجل كانت له أم ولد وله منها ابنة وكانت له حرة لا تلد فزارت الصبية بنت أم الولد أباها، فقام الرجل بعد فراغه من صلاة الفجر، فواقع أهله التي لا تلد وخرج إلي الحمام فأرادت الحرة أن تكيد أم الولد وابنتها عند الرجل فقامت إليها بحرارة ذلك الماء فوقعت عليها وهي نائمة، فعالجتها كما يعالج الرجل المرأة، فعلقت، أي شي ء عندك فيها؟ قال: لا واللَّه ما عندي فيها شي ء، فقال يا أبا

حنيفة: أخبرني عن رجل كانت له جارية فزوجها من مملوك له وغاب المملوك، فولد له من أهله مولود وولد للمملوك مولود من أم ولد له فسقط البيت علي الجاريتين ومات المولي، من الوارث؟ فقال جعلت فداك: لا واللَّه ما عندي فيها شي ء، فقال أبو حنيفة: أصلحك اللَّه إن عندنا قوما بالكوفة يزعمون أنك تأمرهم بالبراءة من فلان وفلان وفلان فقال: ويلك يا أبا حنيفة لم يكن هذا، معاذ اللَّه، فقال أصلحك اللَّه: إنهم يعظمون الأمر فيهما، قال: فما تأمرني؟ قال: تكتب إليهم، قال: بماذا؟ قال: تسألهم الكف عنهما، قال: لا يطيعوني، قال: بلي أصلحك اللَّه إذا كنت أنت الكاتب وأنا الرسول أطاعوني، قال يا أبا حنيفة أبيت إلا جهلا، كم بيني وبين الكوفة من الفراسخ؟ قال أصلحك اللَّه ما لا يحصي، فقال كم بيني وبينك؟ قال لا شي ء، قال أنت دخلت علي في منزلي فاستأذنت في الجلوس ثلاث مرات فلم آذن لك، فجلست بغير إذني خلافا علي، كيف يطيعوني أولئك وهم هناك وأنا هاهنا؟ قال فقبل رأسه وخرج وهو يقول: أعلم الناس ولم نره عند عالم. فقال أبو بكر الحضرمي جعلت فداك الجواب في المسألتين فقال يا أبا بكر سيروا فيها ليالي وأياما آمنين، فقال: مع قائمنا أهل البيت، وأما قوله ومن دخله كان آمنا، فمن بايعه ودخل معه ومسح علي يده ودخل في عقد أصحابه كان آمنا» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 136

فهذا يدلل علي أن المراد من الأمن هو الأمن الأخروي والنجاة من النار، وأنه لا يجازي به إلا من وفي بعهد اللَّه من إتيان الحج والعبادات وهوي فؤاده ومودته إلي الذرية من نسل إبراهيم وإسماعيل، وهم الذين فرضت مودتهم من قربي النبي وعترته

عليهم السلام.

ويشير إلي ذلك قوله تعالي في آيات سورة البقرة من تقييد الأمم بمن آمن، كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر» «1».

وفي رواية للباقر عليه السلام في قول إبراهيم عليه السلام: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» قال: «نحن بقية تلك العترة، وقال كانت دعوة إبراهيم لنا خاصة» «2».

وفي رواية أخري عن الباقر عليه السلام في قوله تعالي: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» فقال عليه السلام: «ما قال إليه يعني البيت، ما قال إلا إليهم، أفترون اللَّه فرض عليكم إتيان الأحجار والتمسح بها، ولم يفرض عليكم إتياننا وسؤالنا وحبنا أهل البيت، واللَّه ما فرض عليكم غيره» «3».

وفي رواية أخري إشارة إلي دليل آخر وهو قوله تعالي: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» «4».

فالمفاد أن الطهارة والكمال المرجو من العيادة لا يتم إلا بلقاء الإمام عليه السلام.

وعن عبداللَّه بن سنان، عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد اللَّه صلي الله عليه و آله: «إن اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 137

أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول اللَّه عز وجل: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» قال: ليقضوا تفثهم لقاء الإمام، وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال: عبداللَّه بن سنان فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام فقلت: جعلت فداك قول اللَّه عز وجل: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال:

قلت: جعلت فداك إن ذريح المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» لقاء الإمام «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك

المناسك، فقال: صدق ذريح وصدقت إن للقرآن ظاهرا وباطنا، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟!» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 139

شواهد من مناسك الحج … ص: 139
تجسد التوسل واللواذ بحضرة الأولياء عليهم السلام … ص: 139
اشارة

ثم إن في الحج جملة من الشواهد الأخري:

الشاهد الأول: مقام إبراهيم عليه السلام … ص: 139

قال تعالي: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي» «1».

فإن هذا الأمر باتخاذ الحجر التي ركب عليها إبراهيم عليه السلام في بناء البيت مقاما مقدسا يصلي عنده ويتوجه إليه، ويتوجه به إلي الكعبة، ينطوي علي نفس المفاد من أن العبادات قد أخذ فيها التوجه بأولياء اللَّه وأصفيائه من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام إلي اللَّه تعالي، لاسيما وأن هذا المقام قد نصب في بيت اللَّه الحرام معلما ليدل علي أن العبادة التوحيدية للَّه لا تتم ولا تتحقق إلا بولاية أوليائه المصطفين، وأنه كما أن البيت قطب لرحي التوحيد، فبابه هم أولياؤه المصطفون آيات بينات فيه.

ولا يخفي ما في التعبير بكلمة «مقام» فإنه للتعظيم والتفخيم والتبجيل، مع أن هذا الحجر ليس هو إبراهيم الخليل عليهما السلام، وإنما أضيف إليه لملامسته جسد إبراهيم عليه السلام.

فالمكان الذي اتصل ولامس وماس جسده الشريف أمرنا في السنة الإلهية أن نتخذه محلا للعبادة ونتوجه فيه ومنه إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 140

فما أشد المطابقة بين مفاد هذه الآية وما تقدم من قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

حيث جعل الباري تعالي المجي في الحضرة النبوية موضعا يزدلف فيه إلي اللَّه تعالي ويتقرب فيه إليه ويتوجه فيه ومنه إليه.

فتلاحم التوجه إلي اللَّه بالتوجه بالنبي محمد وآله عليهم السلام وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلي اللَّه تعالي، فكانوا أبواب سماء الحضرة الإلهية.

الشاهد الثاني: حجر إسماعيل عليه السلام … ص: 140

فإن هذا الحجر قد جعل بضميمة الكعبة مما يطاف به، وقد استخدمه إسماعيل لبعض مرافق معيشته، وفي جملة من روايات الفريقين أن هاجر وإسماعيل مدفونان به، وفيها أن عشرات النبيين قد دفنوا تحته «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 141

فجعل الحجر الذي هو ذكري لإسماعيل عليه

السلام ولموضع قبره مطافا، مما يؤكد علي أن المدار في التوجه إلي اللَّه أن يكون بالتوجه إليه عبر حججه وأصفيائه، ومن هنا جاء في القرآن قوله تعالي: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «1»

فالبيت المقدس وما يحويه من ذكريات الأنبياء عليهم السلام ومقاماتهم وقبورهم وسيلة للصعود إلي عالم الطهارة والحظوة عند اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 142

الشاهد الثالث: ولادة علي عليه السلام في الكعبة … ص: 142

وهذا التخصيص لعلي عليه السلام- وصي رسول اللَّه والمنزل منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله في آية المباهلة، الذي هو من أهل البيت عليهم السلام في آية التطهير، والذي هو ولي المؤمنين حصرا بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بنص آية التصدق في الركوع- بهذه الآية بأن تكون ولادته في جوف وبطن الكعبة وهي مركز القبلة الإلهية «1»، ومركز الطواف ومركز بيت اللَّه الحرام، إشارة إلهية واضحة في أنه كما يتوجه إلي الكعبة لأجل التوجه إلي اللَّه، فكذلك لا بد من التوجه بسيد الأوصياء الذي هو باب مدينة علم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 143

النبي صلي الله عليه و آله لأجل التوجه به إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله.

فالقران والاقتران بين الكعبة ومولد علي عليه السلام في التقدير والقضاء الإلهي تشعير منه تعالي لشعيرة الوسيلة، وأن النبي وأهل بيته عليهم السلام هم وجه اللَّه الذي يتوجه به إليه تعالي، لاسيما مع ما لابس ذلك الحدث من انشقاق الجدار لفاطمة بنت أسد، ومكثها ثلاثة أيام، ومحاولة أبي طالب وقريش فتح باب الكعبة فلم ينفتح، فعلموا أن ذلك بتدبير من اللَّه، وغيرها من الإرهاصات كتسمية المولود، واللوح النازل من السماء

والذي علق في الكعبة وكان فيه اسم علي عليه السلام «1».

وغير ذلك مما أبان عن كون هذا الحدث آية ربانية خص بها الباري علي ابن أبي طالب عليه السلام، للتدليل علي اصطفائه، وأنه الباب الذي منه يقصد إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله.

ومن ثم عبر المحدث المتتبع نادرة زمانه الميرزا النوري بقوله: «لا يبعد القول بأن ولادة علي في الكعبة من ضروريات المذهب» تدليلا علي كونها أمرا عقديا وليس مجرد حدثا تاريخيا «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 145

الشاهد الرابع: شواهد أخري … ص: 145

ومن الشواهد علي البحث الذي نحن بصدده جملة الأعمال الأخري في الحج كالسعي بين الصفا والمروة، فإن فيه بصمة وعلامة من آدم صفي اللَّه، ومن ثم سمي الصفا، ومن حواء وهي امرأة، ومن ثم سمي مروة، حيث ورد أن آدم نزل علي الصفا عندما أهبط، وحواء نزلت علي المروة.

مضافا إلي ارتباط استحباب الشرب من زمزم بنبع الماء لإسماعيل وهاجر، وكذلك عرفات حيث سميت بذلك لاعتراف آدم عليه السلام بخطيئته إلي اللَّه تعالي بترك ما هو أولي، وكذلك المزدلفة حيث ازدلف آدم إلي ربه فيها، وكذلك ذبح الهدي كقربان في مني وكافتداء عن إسماعيل.

وبالجملة فهذه النسك مضافا إلي كونها عبادات للَّه تعالي، فإنها مقترنة بمشاهد للأنبياء والمرسلين عليهم السلام مذكرة بهم احتفاء بهم وبأسمائهم، وتقربا باحتذائهم إلي اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 146

كسبيل وباب إليه تعالي.

ومن ثم يتفطن إلي ما في لزوم الإتباع لسنة الرسول صلي الله عليه و آله من معني التوجه به إلي اللَّه تعالي، كما في قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» «1».

فإن التأسي به توجه به إلي اللَّه، وتقديمه إماما وافدا في

السير والوفود علي اللَّه، فيكون سيره وسيرته سبيلا يتوجه به إلي اللَّه تعالي، وبابا يطرق للوفود علي الحضرة الإلهية، فلا يتوجه إلي اللَّه إلا بتقديمهم له إماما سواء في نهج المعرفة أو في سبيل العمل.

أو ليس الجائي بمعارف القرآن من عند اللَّه تعالي هو رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فضلا عن شريعة الأعمال، فمن وحد اللَّه قبل عنهم ومن قصده توجه بهم، وهذا هو معني اتخاذهم عليهم السلام وسيلة إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 147

الوجه العاشر: قاعدة الإثبات بلا تشبيه والتنزيه بلا تعطيل … ص: 147

اشارة

فلا سبيل إلي التوحيد في الذات والصفات والأفعال بالنحو الذي ذكرناه إلا بتقرير العظمة الإلهية والكمال اللا متناهي، وهو إنما يتقرر بتقرير أن الذات الإلهية أعظم من صفات الفعل ومن أسمائها وأفعالها.

إن السنن الإلهية في الصفات والأفعال ونظام الوسائط هو نظام تنزيه بلا تعطيل وإثبات بلا تشبيه.

فإن تطبيق هذه القاعدة في إقامة التوحيد خروجاً عن حد التشبيه وحد التعطيل في مقام الأفعال، وكذلك في مقام الصفات الفعلية والأسماء الحسني، هو بتثبيت النسبتين المعبر عنه بنظام الوسائط.

وليس المراد من هذا العنوان ما قد يتخيل من أن الفعل إسناده إلي الباري من بعيد، وإسناده إلي الواسطة المخلوقة من قريب، فإن هذا نحو من التعطيل أو التشبيه بصدور الأفعال من العقول بأن يتصور نحو استغناء في الوسائط عن الباري.

كما أنه ليس المراد من قرب إسناد هذه الأفعال من الباري التشبيه بتصوير مباشرة الباري للمادة أو النفس في صدور الأفعال منه، فكم أخطأ من يتصور أن الإسناد من قرب يعني الملابسة للمادة والمباشرة كمباشرة النفس، كما أنه يخطأ من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 148

ينزه الباري عن ملابسة المادة، وعن المباشرة كمباشرة الروح، بأن يتصور أن إسناد الفعل للباري علي ضوء ذلك هو

عن بعد، فإن البعد والقرب في إسناد الأفعال ليس بمباشرة المادة وعدمها، ولا بملابسات الروح، ولا بالبعد والقرب الجغرافي والجسماني، بل إنما هو بسيطرة القدرة ونفوذ القوة وهيمنة السلطان، فإن كل شي ء قائم به.

فهذه القاعدة لا يقتصر في مراعاتها كقاعدة أسسها أهل البيت عليهم السلام وكشفوا عنها، وتلقتها سائر المدارس الكلامية بالقبول- لسانا وشعارا لكنهم أخفقوا في تطبيقها في مجالات عديدة من مسائل العقيدة، فلربما تري بعض المدارس تراعي تلك القاعدة في تنظير معرفة التوحيد في مقام الذات لكنها تخفق في مراعاتها في تنظير التوحيد في مقام الصفات أو مقام الأفعال، بل قد وقع في ورطة الإخفاق في مراعاة القاعدة في المقامين الآخرين جملة من المدارس الإسلامية في مقام دون مقام؛ لأن أهل البيت عليهم السلام قد شددوا في مراعاتها في كل المقامات، فتري المدارس الإسلامية الأخري قد جعلت جملة من الصفات الفعلية للباري تعالي من منزلة ومقام الصفات الذاتية، فوقعت في التشبيه كما في قوله تعالي: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ» «1»

فجعلوا الأيدي هاهنا من الصفات الذاتية مع أنها من صفات الفعل.

وكذلك قوله تعالي: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ» «2»

وقوله تعالي: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَي عَيْنِي» «3»

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 149

فجعلوا الأعين والعين صفة الذات بينما هي من صفات الفعل.

وكذلك قوله تعالي: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان* وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» «1»

فجعلوا الوجه صفة الذات بينما هي صفة الفعل.

وقوله تعالي: «يَا حَسْرَتَي علَي مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وإن كُنتُ لَمِنَ السَّآخرينَ» «2»

فجعلوا الجنب صفة الذات بينما هو صفة الفعل.

وقوله تعالي: «يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ» «3»

وقوله تعالي:

«وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «4»

فجعلوا الكلام صفة الذات بينما هو صفة الفعل.

وقوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» «5»

وقوله تعالي: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» «6»

وقوله تعالي: «وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وإنا لَمُوسِعُونَ» «7»

وقوله تعالي: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 150

كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ» «1»

وغيرها من الصفات الأخري في القرآن الكريم، فجعلوها من صفات الذات فوقعوا في أعظم تشبيه للخالق بالمخلوقات كأحكام التجسيم أو التشبيه بالنفس والروح أو الفعل.

فجعلوا لعين الذات الإلهية عينا ويدا وجنبا ووجها وساقا ونحو ذلك، بينما هناك فرق بين ثبوت صفات الفعل للذات الإلهية وثبوت صفات الذات للذات الإلهية، فإن صفات الذات عين الذات، بينما صفات الفعل هي عين الفعل لا عين الذات، نعم هي قائمة ومملوكة للذات الإلهية، كمملوكية جميع المخلوقات للذات الإلهية، ومن هذا القبيل قوله تعالي: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «2»

فإن هذه الأسماء أضيفت إليه تعالي بلام الملكية والاختصاص للدلالة علي أنها مملوكة له تعالي، وهذه الأسماء هي عين صفات الفعل، كما مر بيان ذلك في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام.

بينما أكدت مدرسة أهل البيت عليهم السلام علي أن هذه الصفات صفات فعل وليست صفات الذات، وأن من يسند هذه الصفات إلي الذات علي نحو صفات الذات فقد وقع في التشبيه.

ومن ثم ورد عن أمير المؤمنين وعنهم عليهم السلام أنهم عين اللَّه الناظرة ولسانه الناطق وجنبه وعيبة علمه، وأنهم يده الباطشة وأذنه الواعية.

وكذلك وقع أكثرهم في التشبيه في إسناد الأفعال إليه

تعالي، فجعلوا إسناد تلك

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 151

الأفعال علي نمط إسنادها إلي غير اللَّه تعالي، وهو إثبات بتشبيه كما في العديد من الآيات:

قوله تعالي: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ» «1»

وقوله تعالي: «يَا حَسْرَةً عَلَي الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون» «2»

وقوله تعالي: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا» «3»

وقوله تعالي: «رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «4»

وكذلك قوله تعالي: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» «5»

وكذا قوله تعالي: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» «6»

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» «7»

وقوله تعالي: «وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء» «8»

.الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 152

وقوله تعالي: «فَضَرَبْنَا عَلَي آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا» «1»

وقوله تعالي: «كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ» «2»

وقوله تعالي: «لَمَقْتُ اللَّهِ أكبر مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَي الإيمان فَتَكْفُرُونَ» «3».

وغيرها من سائر الأفعال التي أسندت في ظاهر الكتاب إلي الذات الإلهية، فحمل الإسناد في هذه الأفعال علي نمط الإسناد إلي المخلوقين، وهو ما يستلزم القول بطرو الأحوال الحادثة علي الذات الإلهية، وسبحان اللَّه عما يصفون.

وهو من التشبيه في الأفعال إما بالأفعال الصادرة من النفس أو الروح أو الصادرة من الجسم، بينما إسناد هذه الأفعال المفروض فيه أنه بنمط آخر، كما في إسناد أي فعل يصدر من المخلوق، فإن له نسبة إسناد إلي اللَّه لا تستلزم الجبر، فإن نسبة الأفعال إلي اللَّه هي بنمط ما منه الوجود، أي ما كان ابتداء ونشأة وإبداع وجوده منه تعالي.

ونسبة الأفعال نفسها إلي المخلوقين نسبة ما به الوجود، كما

يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وأن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وأن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا* مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا» «4»

.فتدل الآية علي أن تقدير الأمور كلها من عند اللَّه تعالي، كما تدل علي أن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 153

مطلق الخير وإن صدر علي يد العبيد وأسند إليهم، إلا أن منشأه وابتداءه هو من عند اللَّه تعالي، وقد ورد في الحديث القدسي: «إن اللَّه أولي بحسنات العبد من نفسه كما إن العبد أولي بالسيئات من اللَّه» «1».

وبعبارة أخري:

إن جملة هذه الأفعال هي أفعال من يلابس المادة أو الجسم أو النفس، وصدورها عن الباري لا بالملابسة، وإن كان ذلك الفعل لا ينفك عن الملابسة لتقوم هويته بتلك الملابسة، وتقوم نسبته إلي النفس أو المادة أو الجسم، فمن ثم تكون له نسبتان:

الأولي: نسبة إلي الباري بنحو الإبداع.

الثانية: نسبة إلي المخلوق بنحو التكوين أو التوليد.

و من ثم أشير إلي هاتين النسبتين في جملة من الآيات، وأسند الفعل إلي كل من الذات الإلهية، وإلي ذات المخلوقين، كما في:

قوله تعالي: «وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «2»

.وقوله تعالي: «وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ» «3»

.وقوله تعالي: «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا» «4»

.فأسند تعالي التأييد إلي كل من الذات الإلهية وإلي روح القدس والجنود الغيبية، فدخل حرف «الباء» علي مجري الفيض وواسطة الإيجاد، وكذا في:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 154

قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» «1»

.وكما في قوله تعالي: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» «2»

.وقوله تعالي: «حَتَّيَ إذا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ» «3»

.وقوله

تعالي: «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَي رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» «4»

.وقوله تعالي: «اللَّهُ يَتَوَفَّي الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» «5»

.فأسند الموت في هذه الآيات إلي ثلاث نسب، أي إلي كل من أعوان ملك الموت من الملائكة والرسل، وإلي ملك الموت نفسه، وإلي الذات الإلهية.

معني نسبة الفعل بإسنادين لفاعلين بالطولية … ص: 154

وقد عبر عن التوفيق بين النسب السابقة بأنها علي نحو النسب الطولية، وقد يوهم هذا التعبير ما مر من إسناد الفعل إلي الذات الإلهية من بعد، وإسناد الفعل من قرب إلي المخلوقين، وهذا معني خاطئ للطولية.

بل المراد من الطولية تقوم كل من المخلوق وفعله بالذات الإلهية، فكل شي ء قائم به، وكل حول وقوة به تعالي، أي أن المراد من الطولية افتقار الفعل والفاعل من المخلوقين إليه تعالي، والتقوم والانتهاء إليه.

وإن نسبة الفعل إلي ملك الموت وأعوانه ليس بنحو يستقل عن نسبة الفعل إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 155

الباري، فنسبة الفعل إليهم ليست في عرض يغاير ويباين ويستقل عن ذات النسبة التي للباري تعالي، بل النسبة إليهم متقومة بتلك النسبة التي إليه تعالي.

ويضاف أن هناك مغايرة بين النسبتين في أن النسبة التي للملائكة ولملك الموت هي بمباشرة ملك الموت وأعوانه لنحو ما للمادة، ولارتباط معين بالروح، بخلاف نسبة الإماتة للباري تعالي، فإنها ليست بتعلق ببدن الميت ولا بمحاذاة روحية، بل بنسبة إبداعية خالية من شوب نقائص الاحتياج إلي المادة أو ما يتعلق بالمادة كالنفس.

ومن ثم ورد عنهم عليهم السلام أن معني غضب اللَّه أن يغضب أولياؤه، وأن ابتهاجه تعالي هو ابتهاج أوليائه المصطفين وهكذا، وإليك بعض الروايات:

في الكافي عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» فقال عليه السلام:

«ما يقولون فيه؟ قلت:

يقولون: يهلك كل شي ء إلا وجه اللَّه. فقال: سبحان اللَّه لقد قالوا قولا عظيما، إنما عني بذلك وجه اللَّه الذي يؤتي منه» «1».

وعن حمزة بن بزيع، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه عز وجل: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ» فقال: إن اللَّه عز وجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه؛ لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلي خلقه، لكن هذا معني ما قال من ذلك وقد قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها»، وقال: «من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه» وقال: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللَّه، يد اللَّه فوق أيديهم»، فكل هذا وشبهه علي ما ذكرت لك،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 156

وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلي اللَّه الأسف والضجر، وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما؛ لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكوَّن، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالي اللَّه عن هذا القول علوا كبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم إن شاء اللَّه تعالي «1» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 157

وعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه عز وجل: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» قال: إن اللَّه تعالي أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا

ظلمه، وولايتنا ولايته، حيث يقول: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ» يعني الأئمة منا.

ثم قال في موضع آخر: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» «1» «2».

وكذلك ما ورد من الأفعال التي هي أليق بالمخلوقين من الخالق، فإن اللَّه لا يعتريه ما يعتري النفوس والأرواح من الأحوال والعوارض، ولا يقتصر قصور العقول.

ومن ثم نخرج بقاعدة عامة أن جملة صفات الأفعال وأسمائها، والأفعال هي مخلوقات لا هي عين الخالق، ولا هي أمور تعتري ذاته، وإنما هي مخلوقات تقوم به صدوراً، وهذه المخلوقات لها نسب إلي ذوات مخلوقة، فتتحقق فيها نسبتان نسبة إلي ذات الخالق تعالي، ونسبة إلي تلك الذوات المخلوقة، إلا أن نسبتها إلي الذات الإلهية نسبة الصدور من الخالق، وما منه الوجود ينشأ ويبتدئ، ونسبتها إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 158

تلك الذوات ما به الوجود، أي ما يجري به الفيض الإلهي ويظهر بصورته ويلابسه، أي يلابس الفعل الإلهي تلك الذوات المخلوقة.

ومن ذلك يتبين أن الارتباط بالذات الإلهية وعبر فعله تعالي والذي يكون اسماً وصفة ونفس تلك الأفعال هي ذوات مخلوقة شريفة، وهي آيات دالة وكاشفة عن العظمة الإلهية، وعظمة الكمال الذاتي.

وبذلك يظهر إن الوصول والزلفي والتوجه إلي الذات الإلهية لا يقدر عليه المخلوق إلا عبر التوجه بتلك الآيات والذوات الشريفة المخلوقة، فهي وسائل للمعرفة الإلهية والقربي والزلفي للحضرة الإلهية.

فلا سبيل إلي التوحيد في الذات والصفات والأفعال بالنحو الذي ذكرناه إلا بتقرير العظمة الإلهية والكمال اللامتناهي، وهو إنما يتقرر بتقرير إن الذات الإلهية أعظم من صفات الفعل ومن أسمائها وأفعالها، وما هذه الأمور إلا آيات وعلامات علي عظمة السذات الإلهية.

لأن هذه الأمور حيث اشتملت علي نسب خلقية، فلا محال أن تكون محدودة، فلا تكون عين الخالق، بل مخلوقة

دالة عليه، ووسيلة إلي معرفة عظمته، وأنه فوقها وهي دونه، ومن ثم هي متكثرة لمحدوديتها، وهو الواحد الأحد الذي ليس له حد يكثره.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 159

الفصل الثاني تحليل مفاد وأبعاد يا محمد ويا علي … ص: 159

اشارة

فهذا اللفظ الحاكي للنداء والتوجه هو بنفسه عبادة راجحة أصيلة من جذر تعاليم الدين، فهو ذكر صلاتي عظيم ومن أحكامه الفقهية الثابتة بطلان صلاة كل مسلم دان بدين الإسلام إن لم يأت به، فكيف بما هو خارج الصلاة!!

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 161

المقام الأول: مقام النداء … ص: 159

اشارة

فيكون التركيز التربوي في الصلاة علي التوجه لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وندائه ومخاطبته، ومخاطبة عباد اللَّه الصالحين تجذير لهذه السنة الدينية الأصيلة لدوام التوجه والاتصال برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعدم الانقطاع عنه، وأن بالتوجه إليه يتوجه إلي اللَّه تعالي.

إن قول «يا محمد» أو «يا علي» في التركيب اللغوي يشتمل علي «يا» النداء والمناداة، ويتضمن في معناه توجه من المنادي إلي المنادي، كما أنها تشتمل علي فعل التنبيه، أي جلب التفات المنادي للمنادي، فهي في قوام معناها توجه وخطاب يوطأ لما بعده من الكلام، وهو في نفسه بهذا القدر ليس إلا توجه وخطاب ونداء ونحو زيارة لفظية ومعنوية من بعد، كما في قول المصلي المسلم في داخل الصلاة:

«السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته» فهو في لب معناه زيارة وتوجه ونداء، فإن عبارة «أيا» من أدوات النداء مثلها مثل «يا» النداء؛ لأن النداء قد يصاغ ب «يا» وقد يصاغ ب «أيا» ونحوه.

فهذا اللفظ الحاكي للنداء والتوجه هو بنفسه عبادة راجحة أصيلة من جذر تعاليم الدين، فهو ذكر صلاتي عظيم، ومن أحكامه الفقهية الثابتة بطلان صلاة كل مسلم دان بدين الإسلام إن لم يأت به فكيف بما هو خارج الصلاة!!

وكذلك من أذكار الصلاة الشريفة قول المصلي: «السلام علينا وعلي عباد اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 162

الصالحين» فإنه توجه وخطاب إلي عباد اللَّه الصالحين، وتكرار ذلك الخطاب والذكر في الخمس الصلوات

يمثل تربية من الدين الحنيف للمسلم علي التوجه والنداء اليومي المكرر لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولعباد اللَّه الصالحين أي المصطفين من حجج اللَّه تعالي.

هذا فضلا عما لو أتي العابد بالنوافل المرتبة وغيرها، فإن هذا الذكر والتوجه والنداء سيتكرر عشرات المرات.

فيكون التركيز التربوي في الصلاة علي التوجه لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وندائه ومخاطبته ومخاطبة عباد اللَّه الصالحين تجذير لهذه السنة الدينية الأصيلة لدوام التوجه والاتصال برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعدم الانقطاع عنه، وأن بالتوجه إليه يتوجه إلي اللَّه تعالي، كما أن بدوام التوجه إلي الكعبة وهي أحجار يحصل التوجه إلي الباري تعالي، فقد جعل اللَّه في سورة البقرة تولية الوجه شطر المسجد الحرام هو من التولية لوجه اللَّه تعالي، فإذا كان المسجد الحرام استحق اسم وجه اللَّه فكيف بخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله وخاتم الأوصياء عليه السلام؟!

وقد ندب القرآن الكريم إلي التوجه إليه فقال اللَّه تعالي آمرا الناس: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

وقال تعالي في صفة المنافقين: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2».

فالذي ينقطع عن التوجه برسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقد أخذ بسنة إبليس في استكباره عن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 163

التوجه بآدم الذي هو خليفة اللَّه في أرضه.

وليس وراء التحسس والإثارة علي هذا الذكر الشريف «يا محمد» و «يا علي» من ثمرة إلا قطع الصلة والاتصال والارتباط والتوجه للنبي صلي الله عليه و آله والوصي عليه السلام، مع أن هذا الذكر درس في الصلاة

التي هي عمود الدين أقيم لبيان أن الصلاة لا تقبل من دون نداء النبي صلي الله عليه و آله والتوجه إليه والزيارة له ولو عن بعد، فضمنت الصلاة زيارة النبي صلي الله عليه و آله لبيان أن الصلاة كما هي معراج المؤمن هي أيضا حضور وتوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله وزيارة له، وأنها لا تصح إلا بذلك كما لم تصح عبادة إبليس عندما رفض التوجه بآدم عليه السلام في عبادته، فكان جزاؤه أن طرد عن باب رحمة اللَّه مذؤوما مدحورا رجيما، ووجبت عليه اللعنة الإلهية إلي يوم الدين، وقد قال تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

وبضم قول اللَّه تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَي رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» «2»

إلي الآية السابقة نفهم أن الذي لا يتوجه إلي رسل اللَّه وحججه عليهم السلام لا تفتح له أبواب السماء لصعود عبادته ودعائه، وهذا ما يفسر لنا سر تركيز الدين علي زيارة النبي صلي الله عليه و آله وندائه والتخاطب معه والتوجه إليه ولو من بعد الديار في كل صلاة، كي تقبل وتصح وترتفع وتفتح لها أبواب السماء، بل لم يقتصر علي زيارة النبي في الصلاة اليومية مفروضة ومندوبة، وإنما ضمنت زيارة بقية الحجج عليهم السلام الذين هم عباد اللَّه الصالحين، كما نص علي ذلك القرآن الكريم حيث وصف جملة من الأنبياء بمصطلح العبد الصالح.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 164

بل ذهب الصدوق في الفقيه والمقنع والهداية، والنراقي في المستند، والنوري في المستدرك، والمفيد في المقنعة، والطوسي في النهاية، والحلبي في الكافي، وسلار في المراسم، وابن

براج في المهذب، وغيرهم، إلي هذه الصورة من التسليم الصلاتي، وصورته اللفظية كما في الفقيه: «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علي محمد بن عبداللَّه خاتم النبيين، السلام علي الأئمة الراشدين المهديين، السلام علي جميع أنبياء اللَّه وملائكته ورسله، السلام علينا وعلي عباد اللَّه الصالحين» «1».

وأما صورة التسليم بالكيفية المتعارفة وهي: «السلام علينا وعلي عباد اللَّه الصالحين» فعليها عامة المذاهب الإسلامية بشي يسير من الاختلاف.

ونضيف هنا أن النداء للرسول والأئمة عليهم السلام ذكر عبادي متواتر في الزيارات المأثورة للنبي صلي الله عليه و آله عند الفريقين والمتواتر من زيارات أئمة أهل البيت عليهم السلام.

فأما من طرق العامة فقد جاء في كتاب المغني:

ويروي عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلي الله عليه و آله فجاء أعرابي فقال:

السلام عليك يا رسول اللَّه سمعت اللَّه يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلي ربي. ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

اًثم انصرف الإعرابي، فحملتني عيني فنمت فرأيت النبي صلي الله عليه و آله في النوم فقال: يا عتبي إلحق الإعرابي فبشره أن اللَّه قد غفر له.

ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمني ثم يقول بسم اللَّه والصلاة علي رسول اللَّه اللهم صلي علي محمد وعلي آل محمد واغفر لي وافتح لي أبواب

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 165

رحمتك وإذا خرج قال مثل ذلك، وقال وافتح لي أبواب فضلك، لما روي عن فاطمة بنت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ورضي اللَّه عنها أن رسول

اللَّه صلي الله عليه و آله علمها أن تقول ذلك إذا دخلت المسجد.

ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا نبي اللَّه وخيرته من خلقه، أشهد أن لا اله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت اللَّه حتي أتاك اليقين، فصلي اللَّه عليك كثيرا كما يحب ربنا ويرضي، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي، مستشفعا بك إلي ربي، فاسلك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وانجح السائلين، وأكرم الآخرين والأولين، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم يدعو لوالديه ولإخوانه والمسلمين أجمعين … «1».

فتري في رواياتهم يبنون علي مشروعية نداء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ورجحانه، وأنه نمط من الخطاب والزيارة للنبي صلي الله عليه و آله، بل يشرعونه لقادتهم ولمن يأتمون به.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 166

نداء الرسول صلي الله عليه و آله في العبادات نوع توسل … ص: 166

فيجد المتتبع في مصادر العامة تظافر الكلمات علي مشروعية النداء ب «يا رسول اللَّه» أو «يا محمد» أو «يا نبي اللَّه»، وأن النداء نحو خطاب وزيارة وتوسل

واستغاثة واستشفاع، وأنه من الأذكار الدينية الراجحة، ولا وسوسة في رجحانه وعباديته.

ثم إن مشروعية النداء ورجحانه للنبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام يفيد رجحان التوجه للنبي صلي الله عليه و آله وأنه وسيلة لعبادة اللَّه، لأن كل شي ء يؤتي به في الصلاة لابد أن يكون عبادة.

فهذا التوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله أثناء الصلاة لا بد أن يكون مؤداه عبادة اللَّه، لاسيما علي المقولة القائلة بأن أجزاء الصلاة عبادتها ذاتية أي مما يمكن أن يتقرب به إلي اللَّه ويتعبد به، وكذلك التوجه إلي عباد اللَّه الصالحين.

وهذه الضرورة التي يمارسها كل مسلم من أبناء جميع المذاهب الإسلامية باستقلالها وجه مستقل برهاني، وضرورة الشريعة علي عبادية التوسل، وأنه من وجوه العبادة الكبري التي يمارسها كل مسلم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 167

المقام الثاني: مقام الاستغاثة … ص: 167

اشارة

يظهر أن أدلة الشفاعة القرآنية للرسول وأهل بيته عليهم السلام هي بنفسها مقتضية لتسويغ بل الحث علي طلب الحوائج من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام لأن دأب المحتاجين علي سؤال حوائجهم من الشفعاء والتوجه بطلبها إليهم.

إذا أريد من «يا محمد» و «يا علي» الاستغاثة، وهو بلحاظ متبوع الذي يذكر بعد النداء والمنادي من الطلب والتوسل في قضاء الحاجات، أو بتقدير نستغيث بك «يا محمد» و «يا علي».

صور الاستغاثة بأهل البيت عليهم السلام … ص: 167

وحينئذ فللتوسل والاستغاثة بهم بهذا المعني صور عديدة منها:

الصورة الأولي: … ص: 167

أن يقول الداعي المتوسل يا رسول اللَّه أو يا ولي اللَّه ادع اللَّه أن يرزقني، أو يقضي حاجتي وهكذا.

وقد نص القرآن الكريم علي كونه سنة إلهية، كما في قوله تعالي علي لسان أبناء يعقوب: «قَالُواْ يَا أَبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 168

رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «1».

وقد ذكر في ذيل السورة قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «2».

فمضافا إلي تقرير النبي المعصوم صلي الله عليه و آله لطلب أبنائه، كذلك قد قرر القرآن الكريم في شريعة القرآن هذا النمط.

وهذا يدل علي سنة إلهية في ناموس الدعاء، وأنه من آداب الدعاء التوجه بالطلب إلي ولي اللَّه لأن يطلب الولي بما له من وجاهة عند اللَّه حاجة الداعي، وهذا نظير مطابق لما يحدث من استغاثة بالشفيع والوسيط والوجيه لأن يطلب ويتشفع في قضاء الحاجة، فيكون الذي يتوجه بالطلب مباشرة هو الشفيع دون المشفوع له، فهذا الرسم المرسوم في كيفية الدعاء من الآداب التي أكد عليها القرآن الكريم.

ومنه يعلم أن إنكار ذلك محاددة للقرآن الكريم.

الصورة الثانية: … ص: 169

أن يقول الداعي أسألك يا اللَّه بحق رسولك ونبيك صلي الله عليه و آله، أو وليك أن ترزقني أو أن تقضي حاجتي أو أن ترفع كربتي، أو يا اللَّه أتوجه إليك بوجاهة نبيك أو وليك عليهم السلام، وقد قامت روايات الفريقين علي مشروعية ذلك، فمن طرق السنة ما ذكره في الأذكار النووية:

وروينا في كتاب الترمذي، وابن ماجه عن عثمان بن حنيف رضي اللَّه عنه، أن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 169

رجلا ضرير البصر أتي النبي صلي الله

عليه و آله فقال: ادع اللَّه تعالي أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وأن شئت صبرت فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلي الله عليه و آله نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم فشفعه في» «1».

وقال ابن عابدين في حاشية رد المحتار: ج 6 ص 716: نعم ذكر العلامة المناوي في حديث: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، عن العز ابن عبد السلام: أنه ينبغي كونه مقصورا علي النبي صلي الله عليه و آله وأن لا يقسم علي اللَّه بغيره، وأن يكون من خصائصه. انتهي

وقد قامت الضرورة بأن هذا النمط نحو من التوسل والتشفع الراجح وإنما الكلام في تعيين الأرجح في الصورتين والصور الآتية.

أقول: وأودنا كلامه وأن لم نوافقه في الحصر، بل الخصيصة والحصر هي في امتياز سيد الأنبياء بالشفاعة الكبري لا في أصل الشفاعة، كيف وقد نص القرآن الكريم علي استشفاع أبناء يعقوب به واستشفاع بني إسرائيل بموسي عليه السلام في مواطن عديدة، كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَي لَن نَّصْبِرَ عَلَيَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا» «2»

.وقوله تعالي: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَي ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ» «3».

وغيرها من الموارد القرآنية إلا أن الغرض من ذكر كلامه هو تقريره للتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله في الدعاء.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 170

الصورة الثالثة … ص: 171

أن يقول المستغيث يا رسول اللَّه أو يا ولي

اللَّه أسألك قضاء الحاجة الكذائية أو يا رسول ويا ولي اللَّه أغثني، بمعني أن يكون الطلب من النبي أو الولي عليه السلام لينجز الأمر علي يديه وبإرادته باعتباره محل إرادة اللَّه وموضع مشيئته، وليس المعني والاعتقاد أن النبي الأكرم صلي الله عليه و آله أو الولي المعصوم عليه السلام يملك إنجاز الفعل بنفسه علي وجه الاستقلال والاستغناء عن اقدار اللَّه تعالي.

شواهد الصورة الثالثة … ص: 170

اشارة

وقد نص القرآن الكريم علي الصورة الثالثة في العديد من الآيات منها:

الشاهد الأول … ص: 170

في شأن الرجل الذي استعان بموسي عليه السلام في قوله تعالي: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَي حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلان هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَي فَقَضَي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ» «1».

وتقريب الآية من وجهين … ص: 170

الجهة الأولي: إن الآية تخبر عن وقوع حقيقة الاستغاثة بما لها من معني وحقيقة من المستغيث، وأن المستشفع به كان النبي موسي عليه السلام، فحقيقة ما وقع من الطلب هو استغاثة حقيقية من الرجل المظلوم إلي النبي موسي عليه السلام، وأن النبي موسي عليه السلام قد أجابه ولبي استغاثته، مما يفيد كون الاستغاثة بالأنبياء عليهم السلام من السنن بعد تلبية الاستغاثة من النبي المرسل من أولي العزم.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 171

الجهة الثانية: تقرير القرآن الكريم لكون ما وقع استغاثة وأنه قد تجاوب مع هذا الفعل من النبي المرسل.

الشاهد الثاني … ص: 171

قال تعالي: «قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ واني عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فإنما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فإن رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ* قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَايَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» «1».

فإن الطلب متعلق بأمر غيبي أي ما تتعلق به القدرة الغيبية، وهو المجي بالعرش قبل أن يأتي قوم سبأ وملكتهم إلي سليمان، والذي سأل ذلك الطلب هو نبي اللَّه سليمان عليه السلام، والمسؤول والمطلوب الذي وجه إليه الطلب هو الملأ الحاضرين في مجلسه، فهو سؤال متعلق بالحاجة من الغيب لكنه قد طلب من أولياء اللَّه تعالي، أي من أعطاهم اللَّه القدرة التكوينية والولاية التكوينية علي الأمور المغيبة.

وقد وصف آصف بن برخيا بأن لديه علم من

الكتاب، وبتوسطه استطاع أن يصدر هذا الفعل ذو القدرة الغيبية، والسائل هو نبي اللَّه سليمان عليه السلام، مع أنه أعلي درجة من آصف بن برخيا وصي سليمان عليه السلام والإمام بعده.

فإذا كان هذا الفعل وهو طلب الحاجة قد صدر من نبي مرسل فهو سنة يستن بها، لاسيما بأن هذه السنة قد أقيمت في مورد الطلب ممن نعت بصفة القدرة اللدنية أي الغيبية المعطاة من اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 172

فهذا يفيد أن السنة الإلهية في طلب الأمور ولو كانت غيبية من الأولياء الذين يعطون القدرة والولاية التكوينية من اللَّه وطلب الحاجيات منهم وإن كانت ذات منشأ غيبي هو من شرعة دين اللَّه وأوليائه، فإذا كان هذا حال طلب الحاجة والأمر ممن وصف أنه عنده علم من الكتاب أي بعض من الكتاب، فكيف حال طلب الحاجة ممن وصف بأنه عنده علم الكتاب كما هو الحال في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال تعالي في نعته: «كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1».

حيث إن سورة الرعد مكية، ولم يكن قد أسلم في مكة من أهل الكتاب أحد، والاحتجاج لعلي عليه السلام لمقام سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله إنما هو بلحاظ هذا الوصف اللدني الغيبي الذي آتاه اللَّه، كما وصف بهذا الوصف أهل البيت عليهم السلام أيضا، حيث قال تعالي: «انَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» «2»

. والمطهرون نعت لأهل البيت عليهم السلام كما في آية التطهير، فهم الذين يطلعون علي الكتاب كله.

الشاهد الثالث … ص: 172

وقد وصفت قدرة الكتاب العزيز في سورة الرعد التي هي نفس السورة التي وصفت عليا عليه السلام بأن له علم

الكتاب كله، ذكرت هذه السورة أن القرآن الكريم يحيي به الموتي، وتقطع به الأرض، وتسير به الجبال، كما في قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 173

سبب النزول … ص: 173

قال الشيخ الطوسي: هذه الآية تتضمن وصف القرآن بغاية ما يمكن من علو المنزلة وبلوغه أعلي طبقات الجلال؛ لأنه تعالي قال: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ» من مواضعها وقلعت من أماكنها لعظم محله وجلالة قدره.

والتسيير تصيير الشي بحيث يسير، تقول سار يسير سيرا، وسيره غيره تسييرا.

«أَو قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ» لمثل ذلك، والتقطيع تكثير القطع، قطعه قطعة، وقطعه تقطيعا، والقطع فصل المتصل.

«أَو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» لمثل ذلك حتي يعيشوا أو يحيوا، تقول: كلمه كلاما، وتكلم تكلما، والكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله لإفادة، و «الْمَوْتَي» جمع ميت مثل صريع وصرعي، وجريج وجرحي.

ولم يجئ جواب «لَوْ» لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لكان هذا القرآن لعظم محله في نفسه وجلالة قدره.

وكان سبب ذلك أنهم سألوا النبي صلي الله عليه و آله أن يسير عنهم جبال مكة لتتسع عليهم المواضع، فأنزل اللَّه تعالي الآية، وبين أنه لو سيرت الجبال بكلام، لسيرت بهذا القرآن لعظم مرتبته وجلالة قدره «1».

وفي الكافي عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبي صلي الله عليه و آله ورث النبيين كلهم؟ قال: «نعم، قلت: من لدن آدم حتي انتهي إلي نفسه؟ قال:

«ما بعث اللَّه نبيا إلا ومحمد صلي الله عليه و آله أعلم منه» قال: قلت: إن عيسي بن مريم كان يحيي الموتي بإذن اللَّه، قال: «صدقت وسليمان

بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقدر علي هذه المنازل، قال: فقال: إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 174

أمره: «فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَي الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» حين فقده، فغضب عليه فقال: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ» وإنما غضب لأنه كان يدله علي الماء، فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يعط سليمان وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة له طائعين، ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء، وكان الطير يعرفه وأن اللَّه يقول في كتابه: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان، وتحيي به الموتي، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وأن في كتاب اللَّه لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن اللَّه به مع ما قد يأذن اللَّه مما كتبه الماضون، جعله اللَّه لنا في أم الكتاب، إن اللَّه يقول: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» ثم قال: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» فنحن الذين اصطفانا اللَّه عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شي ء» «1».

فأثبتت الآية الكريمة والرواية الشريفة أن الذي يعلم بحقيقة الكتاب والقرآن يتمكن من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وإحياء الموتي.

وإذا كانت هذه القدرة معطاة من اللَّه لدنيا لصاحب علم الكتاب، فسؤال الحاجة منه الحاجة المشمولة للقدرة اللدنية التي أعطيها أو وهب إياها هي من السنن في الشريعة الإلهية علي حذو فعل النبي سليمان عليه السلام.

ومن ثم لم يخطئ اللَّه

في سورة الرعد طلب الكافرين من النبي محمد صلي الله عليه و آله إحياء الموتي، وتقطيع الأرض، وتسيير الجبال لتوسعة فجاج مكة، وبسط أرضها للزراعة كأرض الشام وإحياء أسلافهم.

لم يخطئهم في طلبهم هذا من النبي صلي الله عليه و آله، بل أقر أن هذا الطلب من متناول قدرته لعلمه بحقيقة القرآن، بل أنكر عليهم عنادهم ولجاجهم، وأن سؤالهم اقتراحي لا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 175

بداعي الجد والصدق، ولا لأجل طلب المعرفة والإيمان.

فهذه الآية ثالثة الموارد القرآنية التي يتم طلب حاجة غيبية فيها من الأنبياء والرسل والأوصياء عليهم السلام، لاسيما مثل إحياء الموتي، وفتح باب رغيف العيش وبركات الأرض.

لا سيما وأن الآية الثالثة تثبت ذلك بنحو الدوام لمن عنده علم بحقيقة الكتاب، لأنها تبين أن هذه القدرة لا لظرف مؤقت لإبراز معجزة ثم ينتهي الأمد، بل هذه القدرة ثابتة لمن عنده علم الكتاب وحقيقة القرآن بسبب هذه الصفة.

وكذلك الحال في الآية السابقة التي تثبت القدرة علي جلب العرش بطي الأرض، فقد أثبتها القرآن الكريم لآصف بن برخيا بسبب أنه عنده علم ببعض الكتاب، أي أن هذه القدرة ثابتة له بسبب الوصف الذي يتحلي به.

ولا بد من التنبيه إلي أن المراد من العلم بالكتاب وحقيقة القرآن ليس هو العلم بظاهر المصحف الشريف، بل هو العلم بحقيقة القرآن في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون، والكتاب المبين الذي يستطر فيه كل شي ء.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 176

الشاهد الرابع … ص: 176

قال اللَّه تعالي: «وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» «1».

وقال تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَي اللّهِ رَاغِبُونَ» «2».

ففي الآيتين إسناد إيتاء الفضل إلي كل من اللَّه تعالي ثم لرسوله

صلي الله عليه و آله، كما فيها إسناد الغني إلي اللَّه ثم إلي رسوله صلي الله عليه و آله، وذلك لأن الإفضال والإغناء من الرسول صلي الله عليه و آله هو في حقيقته إفضال وإغناء من اللَّه تعالي بجعل رسوله مجري لفيضه تعالي «3».

فحقيقة الإفضال والإغناء واحدة، وهذا مما يقضي بأن طلب الفضل والغني من الرسول صلي الله عليه و آله هو طلب للغناء والفضل من قبل اللَّه تعالي، وأن الاستغاثة بالرسول صلي الله عليه و آله هو عين طلب المدد الإلهي.

وبعبارة أخري:

إن إسناد اللَّه الإغناء للرسول صلي الله عليه و آله بعدما أسند الإغناء إلي الذات المقدسة هو بنفسه باعث ومحرك للعباد علي طلب الحوائج من الرسول صلي الله عليه و آله والتوجه إليه، كيف

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 177

لا وقد جعله بابا لرحمته وشفيعا لهم!!

ومن ذلك يظهر أن أدلة الشفاعة القرآنية للرسول وأهل بيته عليهم السلام هي بنفسها مقتضية لتسويغ بل الحث علي طلب الحوائج من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام؛ لأن دأب المحتاجين علي سؤال حوائجهم من الشفعاء والتوجه بطلبها إليهم «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 178

وفي الحقيقة أن هذه الجدلية والاختلاف أشبه بالخلاف الذي وقع في فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن نظام الحكم السياسي، لكنه في مقام فصل الدين عن نظام التشريع، والقول المتقدم في صدر الكلام ناشئا في الحقيقة من فصل الدين عن نظام عمارة وصناعة الطبيعة وفصل النظام الكوني والطبيعي عن نظام الآخرة.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 179

الاستغاثة بهم عليهم السلام تستوعب حاجات الروح والبدن … ص: 179

اشارة

قال البعض: مشاهد الأئمة عليهم السلام هل هي مواطن علاج روحي أو مواطن علاج بدني؟

وكان جوابه: إن ذلك يعرف من الجواب علي سؤال آخر وهو: هل أن

بيوت الأئمة عليهم السلام مواطن لمراجعة مرضي الروح أو مواطن لمراجعة مرضي البدن؟

وأجاب أن بيوت الأئمة والأنبياء عليهم السلام لم يرد لها أصلا أن تكون مستشفيات لعيادة مرضي البدن، وأن بيوتهم قبل مشاهدهم كانت عيادات لطب الأرواح، فلا تقصدوا الإمام علي أنه صاحب عيادة بدنية!!

والتعليق علي ذلك في نقاط:

النقطة الأولي: أصول عمارة الأرض منبثقة من الأولياء عليهم السلام … ص: 179

إن منع وساطة الأئمة عليهم السلام لفيض اللَّه تعالي، وكذلك حصر آثار التوسل عند قبورهم بالأثر الروحي وغيرها من المسائل في هذا المجال، تنم عن قلة إحاطة بمقامات الأئمة عليهم السلام عند اللَّه تعالي، وتنبأ عن عدم اطلاع بما أودعه اللَّه فيهم من واسطة عامة دينية وتكوينية في هذا الوجود.

والذي ينبغي أن يقال هنا تأسيسا علي المعارف الإلهية:

إن أصول عمارة الأرض كلها بنصوص الأديان السماوية فضلا عن روايات المسلمين، منبثقة من الأنبياء والأولياء عليهم السلام، نعم ينبغي جعل الحوائج الأخروية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 180

الراجعة للجانب الروحي والشق المعنوي في الإنسان أهم في نظر الداعي والمتوسل من الحاجيات الدنيوية؛ لأن كمالات الروح أعظم وأهم وأشرف من كمالات البدن، لاسيما المعرفة باللَّه تعالي والرسول والأئمة من عترته صلي الله عليه و آله، فإنها أعظم منالا وبغية تسير بالإنسان إلي السعادة الأبدية، لكن ذلك لا ينافي صحة الرجوع إليهم من أجل إصلاح شؤون البدن الدنيوي.

النقطة الثانية: ديدن سيرة الرواة علي عموم مراجعاتهم للأئمة عليهم السلام … ص: 180

أرجع المستشكل الحكم في المسألة إلي دراسة الحالة العملية لبيوت الأئمة عليهم السلام، وقال لم يرد أصلا لها أن تكون محطاً للمراجعات البدنية، وهذا غريب جدا؛ وذلك لمخالفته لارتكاز المؤمنين في مراجعاتهم للأئمة عليهم السلام، ومخالفته للنصوص الهائلة التي أثبتت في المجاميع الروائية.

فإن المرتكز في أذهان الناس هو جامعية حامل الدين لشؤون الدنيا والآخرة، ومن ثم فلدي الفريقين روايات متواترة في أسئلة الرواة من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام عن طبابة البدن كما هي عن طبابة الروح.

ونحيل القارئ علي الروايات المستفيضة بل المتواترة المثبتة في كتب الفريقين ومنها:

ما في الكافي: عن علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللَّه، عن آبائه عليهم السلام قال: شكا

رجل إلي النبي صلي الله عليه و آله وجعا في صدره فقال صلي الله عليه و آله: استشف بالقرآن فإن اللَّه عز وجل يقول: «وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» «1».

ما ورد في كتب العامة: كما في خبر أبي داود في سننه عن سلمي خادم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 181

رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «ما كان أحد يشتكي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وجعا في رأسه إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: خضبهما، وزاد البخاري في تاريخه بالحناء» «1».

وعن علي بن النعمان قال: قلت للرضا عليه السلام: «إن لي أبنا، وبه الثؤلول، وقد اغتممت بأمره، فقال: خذ لكل ثؤلولة سبع شعيرات، وأقرأ علي كل شعيرة سبع مرات أول سورة الواقعة، إلي قوله: «هَبَاءً مُّنبَثّاً» وقوله عز وجل: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ …» إلي قوله «وَلَا أَمْتاً» ثم خذ الشعير، شعيرة شعيرة، فامسح بها علي الثؤلول، ثم صيرها في خرقة جديدة واربط علي الخرقة حجرا وألقها في كنيف. قال: ففعلت، فنظرت واللَّه يوم السابع أو الثامن وهو مثل راحتي. قال: وينبغي أن يعالج في محاق الشهر، فانه يذهب إن شاء اللَّه تعالي» «2».

النقطة الثالثة: عموم مرجعيتهم عليهم السلام في العلوم والشؤون المختلفة … ص: 181

قصر المستشكل السعي إلي المشاهد المشرفة في قصد المداواة الروحية والمعنوية، حملا علي ما هو الحال في البيوت المشرفة، ولكن كما تبين أن بيوتهم كانت مقصدا بالنحو المطلق ولكل المهمات فإن قبورهم كذلك ينبغي أن تقصد في كل الحاجيات؛ لأنها مواطن استجابة الدعاء بالتوسل بهم في كل الشؤون الأخروية والدنيوية الروحية والبدنية، وقد ورد استحباب الدعاء والحث عليه بأن يدعو الإنسان ويطلب الحاجة من ربه صغيرة وكبيرة، وسر ذلك معنوي توحيدي كي يستشعر الإنسان الفقر والحاجة إلي اللَّه في

كل شي ء، وأن جميع النعم هي منه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 182

وهذا المعتقد ليس مجرد فتوي عقائدية فاقدة للدليل، وإنما هناك روايات متعددة تثبت ذلك ومن خلال السيرة العملية القائمة في حياة الأئمة عليهم السلام:

الرواية الواردة في الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إلي أبو الحسن عليه السلام في مرضه، وإلي محمد ابن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول: ابعثوا إلي الحير، ابعثوا إلي الحير، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلي الحير، ثم دخلت عليه وقلت له:

جعلت فداك: أنا أذهب إلي الحير؟ فقال: انظروا في ذاك … إلي أن قال فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع بالحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي: اجلس حين أردت القيام فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي: ألا قلت له: إن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت وأمره اللَّه عز وجل أن يقف بعرفة وإنما هي مواطن يحب اللَّه أن يذكر فيها فأنا أحب أن يدعي اللَّه لي حيث يحب اللَّه أن يدعي فيها وذكر عنه أنه قال: ولم أحفظ عنه، قال: «إنما هذه مواضع يحب اللَّه أن يتعبد له فيها فأنا أحب أن يدعي لي حيث يحب اللَّه أن يعبد» «1».

في وسائل الشيعة: عن ابن أبي عمير، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث، أنه سئل عن طين الحاير هل فيه شي ء من الشفاء؟ فقال:

«يستشفي ما بينه وبين القبر علي رأس أربعة أميال، وكذلك

قبر جدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وكذا طين قبر الحسن وعلي ومحمد فخذ منها فإنها شفاء من كل داء وسقم وجنة مما تخاف ولا يعد لها شي ء من الأشياء الذي يستشفي بها إلا الدعاء، وإنما يفسدها ما يخالطها من أوعيتها وقلة اليقين لمن يعالج بها» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 183

النقطة الرابعة: فصل الدين عن نظام الطبيعة … ص: 183

في الحقيقة إن هذا البحث يمت إلي جدل مطروح في النظرة إلي الدين علي أنه مشروع هداية تشريعية وليس مشروعا لعمارة الطبيعة نظير ما أثير في قوله تعالي:

«وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «1».

حيث قيل في تفسير: «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ» أنه بيان للهداية التشريعية وأصول المعارف الاعتقادية، وأما علوم الطبيعة من الفيزياء والكيمياء والأحياء والطب والجغرافيا وغيرها من العلوم الرياضية والهندسية، فليست من شأن هداية السماء ولا من اختصاصات القرآن الكريم.

إذ ليس هو دخيلا في السعادة الأخروية للبشر، ولا دخيلا في إقامة العدالة الاجتماعية في النظام الاجتماعي السياسي، ومن ثم لم يهتم الأنبياء عليهم السلام بعمارة دنيا البشرية، وإنما بعمارة الآخرة.

فالأنبياء والأولياء عليهم السلام هداة لا أطباء ومهندسون وحكام وساسة ولا محترفي صنائع ولا مهرة فنون، فلا بد أن يكون معني «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ» هو تبيان لكل شي ء في صراط الهداية والصراط المستقيم.

بل إن بعضهم ذهب إلي أن تبيان كل شي ء لا يشمل تفاصيل الشريعة وإنما يختص بأصول وكليات التشريع فضلا عن علوم الطبيعة ونحوها من أنظمة العلوم وقوانين الفنون، بينما ذهب آخرون إلي عموم الآية في عامة العلوم والمعارف أسسها وتفاصيلها، غاية الأمر إن ذلك ليس في ظاهر القرآن بل فيما خفي من

دلالته وظهوره الذي لا يلتفت إلي الإحاطة به إلا المعصوم عليه السلام، وقد أشارت إلي ذلك جملة من الآيات الأخري منها:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 184

قوله تعالي: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «1».

وقوله تعالي: «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ* مُّبِينٍ» «2»

. وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «3».

وقوله تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَي وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «4».

ف وقوله تعالي: «انَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» «5».

حيث تشير هذه الآيات إلي إحاطة الكتاب المبين بكل الحقائق، ليس في العالم الأرضي فحسب، بل إلي عوالم الأرضين والسماوات السبع.

وفي الحقيقة أن هذه الجدلية والاختلاف أشبه بالخلاف الذي وقع في فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن نظام الحكم السياسي، لكنه في مقام فصل الدين عن نظام التشريع، والقول المتقدم في صدر الكلام ناشئا في الحقيقة من فصل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 185

الدين عن نظام عمارة وصناعة الطبيعة وفصل النظام الكوني والطبيعي عن نظام الآخرة.

وقد يكون منشأ هذا الفصل ناشئا عن الخطأ في حساب الأولويات وإلغاء الأهم لما عداه وإلغاء الأسس للاهتمام بالتفاصيل،

وقد يكون ناشئا أيضا عن عدم كفاءة المتصدين لمعارف الدين وأحكامه لدرجة كفاءة المعصوم عليه السلام في الجمع والإحاطة بالعلوم، وهذا ما ينبه علي أن ولي الدين إن لم يكن علمه محيطا لدُنياً انعكس ذلك تلقائيا وأوجد طابعا للدين بحسب موقعه وسلوكياته.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 187

الفصل الثالث ملفات التوسل … ص: 187

اشارة

وكيف يؤمل بالقلم أن يكون أميناً في ظل إرهاب السلطة، وكم من معالم في سيرة النبي صلي الله عليه و آله قد أخفيت وزويت عن أن تصل الي مسامع أجيال المسلمين في القرون اللاحقة، ومع كل ذلك «وَيَأْبَي اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 189

الطائفة الأولي: استغاثة المعصومين ببعضهم البعض عليهم السلام … ص: 189

اشارة

يتبين من الرواية تشكي الإمام عليه السلام حاله للرسول صلي الله عليه و آله وبثه إليه همومه، وهو نحو من الاستغاثة والاستنجاد والطلب.

استغاثة الرسول صلي الله عليه و آله بعلي عليه السلام … ص: 189

كتاب درر المطالب قال: «خرج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي غزوة تبوك وخلف علي بن أبي طالب عليه السلام علي أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استقلالا به، فلما سمع ذلك أخذ سلاحه وخرج إلي النبي صلي الله عليه و آله وهو نازل بالحرق، فقال: يا رسول اللَّه زعم المنافقون أنك إنما خلفتني استقلالا بي، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع إلي المدينة ومضي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لسفره.

قال: وكان من أمر الجيش أنه انكسر وانهزم الناس عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فنزل جبرائيل وقال: يا نبي اللَّه إن اللَّه يقرئك السلام ويبشرك بالنصرة، ويخيرك إن شئت أنزلت الملائكة يقاتلون، وإن شئت علياً 7 فادعه يأتيك، فاختار النبي صلي الله عليه و آله علياً عليه السلام، فقال جبرائيل:

در وجهك نحو المدينة وناد: يا أبا الغيث أدركني، يا علي أدركني، أدركني يا علي.

قال سلمان الفارسي: وكنت مع من تخلف مع علي عليه السلام، فخرج ذات يوم يريد الحديقة فمضيت معه، فصعد النخلة ينزل كربا، فهو ينثر وأنا أجمع، إذ سمعته يقول: لبيك لبيك ها

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 190

أنا جئتك، ونزل والحزن ظاهر عليه ودمعه ينحدر، فقلت: ما شأنك يا أبا الحسن؟

قال: يا سلمان، إن جيش رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

قد انكسر، وهو يدعوني ويستغيث بي، ثم مضي فدخل منزل فاطمة عليها السلام وأخبرها وخرج، قال: يا سلمان، ضع قدمك موضع قدمي لا تخرم منه شيئا. قال سلمان: فاتبعته حذو النعل بالنعل سبع عشرة خطوة، ثم عاينت الجيشين والجيوش والعساكر، فصرخ الإمام صرخة لهب لها الجيشان، وتفرقوا ونزل جبرائيل إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وسلّم، فردّ صلي الله عليه و آله واستبشر به، ثم عطف الإمام علي الشجعان، فانهزم الجمع وولوا الدبر، ورد اللَّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفي اللَّه المؤمنين القتال بعلي أمير المؤمنين عليه السلام وسطوته وهمته وعلاه، وأبان اللَّه عز وجل من معجزة في هذا الموطن بما عجز عنه جميع الأمة، وكشف من فضله الباهر، وإتيانه من المدينة شرفها اللَّه في سبعة عشر خطوة، وسماعه نداء النبي صلي الله عليه و آله علي بعد المسافة، وتلبيته من أعظم المعجزات، وأدل الآيات علي عدم النظير له في الأمة» «1».

توضيح إشكال … ص: 190

سؤال: قد يتوهم أن مفاد الرواية غريب وشاذ ومن جهات متعددة:

الجهة الأولي: توهم الرواية أن أمير المؤمنين عليه السلام أشجع من سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، ومن ثم احتاج إليه لصد عدوان الكفار.

الجهة الثانية: في الرواية غرابة أخري، وهي تسجيل وقوع حرب بين المسلمين والروم في غزوة تبوك، مع أن المصادر التاريخية لم تذكر وقوع أي حرب، وإنما تخوف الروم وارتداعهم بمجرد السماع بمجي جيش النبي صلي الله عليه و آله، كما لم تسجل المصادر التاريخية أي حضور لعلي عليه السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 191

الجهة الثالثة: في مضمون الرواية غرابة ثالثة وهي نزول آية: «وَكَفَي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ» في غزوة تبوك مع أنها نزلت في غزوة الأحزاب.

ويرد

التوهم الأول: إن هذا الانطباع عن مفاد الرواية سطحي وفاتر جدا، فإن موقعية النبي صلي الله عليه و آله في إدارة الجيش ونظم وضع المسلمين تستدعي أن لا يباشر بنفسه الشريفة كل الأدوار كما هو الحال في غزوة بدر، فإنه قذف أخاه أمير المؤمنين عليه السلام في لهوات نار الحرب في مواطن عديدة، فلا ينكفئ حتي يطأ لهبها بأخمصه كما في مبارزة عمرو بن ود في الخندق، والمبيت علي الفراش ليلة الهجرة وفتح خيبر، حيث بعث النبي صلي الله عليه و آله أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص، كل منهم في سرية ورجعوا منكفئين ولم يحققوا النصر، حتي بعث أخاه أمير المؤمنين عليه السلام مكدودا في ذات اللَّه مجدا ناصحا، ومن ثم قال عنه النبي في الحديث المشهور:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي» أي أن موقعية علي عليه السلام منه صلي الله عليه و آله هي كقول موسي في أخيه هارون: «وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي» «1».

ومن ثم ورد في الحديث القدسي الشريف عن ابن شهر آشوب: من طريق المخالفين من الرسالة القوامية وحلية الأولياء، واللفظ لها: بالإسناد عن سعيد ابن جبير أنه قال أبو الحمراء: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «رأيت ليلة أسري بي مثبتا علي ساق العرش: أنا غرست جنة عدن بيدي، محمد صفوتي من خلقي، أيدته بعلي نصرته بعلي» «2».

وإلا فسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله هو الحائز علي كل الفضائل فوق سيد الأوصياء عليه السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 192

حيث قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «كنا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتّقينا برسول اللَّه صلي الله عليه

و آله ولذنا به» «1».

وقال علي عليه السلام عندما سئل من قبل بعضهم: أفنبي أنت؟ فقال: «ويحك إنما أنا عبد من عبيد محمد» «2» «3».

ويرد التوهم الثاني: إن عدم ذكر المصادر التاريخية لوقوع حرب في غزوة تبوك لا يعني عدم وقوعها، كيف وقد أخذ القلم السقيفي والأموي، ومن بعده القلم العباسي مأخذه في إخفاء الحقائق وطمس مجريات مسرح الأحداث، إلي درجة أخذوا يزرون بشخصية سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله فضلا عن عترته، وليس إلا لعداوة قريش لصاحب الدعوة وعترته الطاهرة عليهم السلام.

وكيف يؤمل بالقلم أن يكون أمينا في ظل إرهاب السلطة!! وكم من معالم في سيرة النبي صلي الله عليه و آله قد أخفيت وزويت عن أن تصل إلي مسامع أجيال المسلمين في القرون اللاحقة!! ومع كل ذلك «وَيَأْبَي اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ».

ويرد التوهم الثالث: إن نزول الآية في الخندق لا ينافي تكرر نزولها في غزوة تبوك، فإن الآية الواحدة قد يتكرر نزولها عدة مرات، وما أشتهر بين المفسرين من قاعدة سبب النزول الواحد للآية مدفوع بما في الروايات من وقوع نزول الآية عدة مرات في مواطن بمثابة تكون كلها أسباب نزولها، فليس النزول الأول يختص بالسببية كما عرف عن سورة الحمد بالسبع المثاني، حيث تكرر نزولها.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 193

استغاثة علي عليه السلام بالرسول صلي الله عليه و آله … ص: 193

ما جاء في الروايات في وصف حال أمير المؤمنين عليه السلام عند الاحتضار:

«فقال له الحسن عليه السلام يا أبه ما دعاك إلي هذا؟ فقال له: يا بني إني رأيت جدك رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في منامي قبل هذه الكائنة بليلة، فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذي من هذه الأمة، فقال لي: أدع عليهم، فقلت: اللهم أبدلهم

بي شرا مني وأبدلني بهم خيرا منهم» «1».

عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الحسن بن علي عليه السلام قال: خرجت أنا وأبي عليه السلام نصلي في هذا المسجد، فقال عليه السلام لي: يا بني إني بت الليلة أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فملكتني عيناي، فسنح لي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقلت: يا رسول اللَّه ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ فقال لي: ادعُ عليهم. فقلت: «اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر لهم مني» «2».

فيتبين من الرواية تشكي الإمام عليه السلام حاله للرسول صلي الله عليه و آله وبثه إليه همومه، وهو نحو من الاستغاثة والاستنجاد والطلب.

وتبين شكايته لجحود الأمة حقه وتمردها عن الانصياع لهدايته صلي الله عليه و آله لها، وشدة الأذي الذي لاقاه، والتظلم هو نحو طلب المعونة والمدد من المشكو إليه طلبا للنصرة والإغاثة، وقد أجابه صلي الله عليه و آله وأذن له أن يدعو لتجازي الأمة بحرمانها من قيادته، وبركة وجوده، وتدبيره ورياض عدله، وحدائق القسط التي أقامها، والهدي والصلاح الذي أفشاه فيها.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 194

الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول اللَّه! أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار اللَّه لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلي اللَّه أشكو، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك علي وعلي هضمها حقها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلي بثه سبيلا، وستقول ويحكم اللَّه وهو خير الحاكمين»

«1».

وهذه الشكاية هي الأخري طلب من النبي صلي الله عليه و آله بتضميد جراح حليلته الزهراء عليها السلام، ونحو من بث الهم والحزن لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله استظهارا واستنصارا ليكون شاهدا علي ما يجري من انحراف المسيرة، مع أنه قد وجه الشكاية إلي اللَّه تعالي أولا تدليلا علي أن التوجه بالشكاية إلي رسول اللَّه هي شكاية إلي اللَّه تعالي وتوجه بالشكاية إلي الحضرة الإلهية، وهذا هو ما مر علينا من عقيدة كل مسلم عندما يستغيث بالنبي صلي الله عليه و آله والعترة عليهم السلام أن استغاثته بصفة اصطفائهم بالقرب من اللَّه تعالي، وأن التوجه إليهم يؤدي إلي التوجه للحضرة الإلهية؛ لأنهم باب اللَّه الأعظم الذي منه يؤتي.

استغاثة فاطمة عليها السلام بالرسول صلي الله عليه و آله … ص: 194

قال سليم بن قيس: قلت لسلمان أَدَخلوا علي فاطمة عليها السلام بغير إذنها؟ قال: أي واللَّه وما عليها خمار. فنادت: يا أبتاه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر، وعيناك لم تتفقأ في قبرك، تنادي بأعلي صوتها …

فقالت فاطمة عليها السلام: يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: «يا عمر، أما تتقي اللَّه تدخل علي بيتي»؟ فأبي أن ينصرف، ودعا عمر بالنار

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 195

فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة؟ وصاحت: «يا أبتاه يا رسول اللَّه» فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت: «يا أبتاه» فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: «يا رسول اللَّه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر» «1».

استغاثة الحسين عليه السلام بالرسول صلي الله عليه و آله … ص: 195

في الرواية أنه خرج الحسين عليه السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلي قبر جده صلي الله عليه و آله فقال: «السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في أمتك، فاشهد عليهم يا نبي اللَّه أنهم قد خذلوني، وضيعوني، ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتي ألقاك، قال: ثم قام فصف قدميه فلم يزل راكعا ساجدا».

قال: فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلي جده ويقول: «يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلي الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك، فقال له رسول اللَّه: لا بد لك من الرجوع إلي الدنيا حتي ترزق الشهادة، وما قد كتب اللَّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة، حتي تدخلوا الجنة» «2».

استغاثة السجاد عليه السلام في دعائه بالنبي والأئمة عليهم السلام … ص: 195

روي محمد بن يحيي العطار عن أحمد بن محمد السياري عن العباس بن مجاهد عن أبيه قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يدعو عند كل زوال من أيام شعبان، وفي ليلة النصف منه ويصلي علي النبي صلي الله عليه و آله بهذه الصلوات يقول: «اللهم صل علي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 196

محمد وآل محمد شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي، اللهم صل علي محمد وآل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق، اللهم صل علي محمد وآل محمد الكهف الحصين وغياث المضطر المستكين وملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين..» «1».

وقال عليه السلام: «أسألك بحق نبيك محمد صلي الله عليه و آله، وأتوسل إليك بالأئمة عليهم السلام الذين اخترتهم لسرك، وأطلعتهم علي

خفيك، واخترتهم بعلمك، وطهرتهم وأخلصتهم واصطفيتهم وأصفيتهم وجعلتهم هداة مهديين، وائتمنتهم علي وحيك، وعصمتهم عن معاصيك ورضيتهم لخلقك، وخصصتهم بعلمك، واجتبيتهم وحبوتهم وجعلتهم حججا علي خلقك، وأمرت بطاعتهم علي من برأت، وأتوسل إليك في موقفي اليوم أن تجعلني من خيار وفدك» «2».

استغاثة الإمام الكاظم عليه السلام بالزهراء عليها السلام … ص: 196

عن علي بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: قال لي: «إني لموعوكٌ منذ سبعة أشهر، ولقد وعك أبني اثني عشر شهرا وهي تضاعف علينا، أشعرت أنها لا تأخذ في الجسد كله ربما أخذت في أعلي الجسد ولم تأخذ في أسفله، وربما أخذت في أسفله ولم تأخذ في أعلي الجسد كله؟ قلت: جعلت فداك إن أذنت لي حدثتك بحديث عن أبي بصير عن جدك أنه كان إذا وعك استعان بالماء البارد فيكون له ثوبان: ثوب في الماء البارد وثوب علي جسده يراوح بينهما، ثم ينادي حتي يسمع صوته علي باب الدار يا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 197

فاطمة بنت محمد، فقال: صدقت، قلت: جعلت فداك فما وجدتم للحمي عندكم دواء؟ فقال:

ما وجدنا لها عندنا دواء إلا الدعاء والماء البارد، إني اشتكيت فأرسل إلي محمد بن إبراهيم بطبيب له فجاءني بدواء فيه قي فأبيت أن أشربه؛ لأني إذا قييت زال كل مفصل مني» «1».

استغاثة زينب عليها السلام برسول اللَّه صلي الله عليه و آله … ص: 197

وكانت زينب تقول: «وامحمداه، صلي عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، صريع بكربلاء، مقطع الأعضاء، مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي من معسكره نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع بالعرا، بأبي من لا هو غائب فيرجي، ولا مريض فيداوي، أنا الفداء للمهموم حتي مضي، أنا الفداء للعطشان حتي قضي، أنا الفداء لمن شيبته تقطر بالدماء» «2».

ومررن علي جسد الحسين عليه السلام وهو معفر بدمائه مفقود من أحبائه، فندبت عليه زينب بصوت مشج وقلب مقروح: «يا محمداه، صلي عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا وإلي اللَّه المشتكي، وإلي علي المرتضي، وإلي فاطمة الزهراء، وإلي حمزة سيد الشهداء، هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد الأدعياء،

واحزناه واكرباه، اليوم مات جدي رسول اللَّه، يا أصحاب محمداه، هذه ذرية المصطفي يساقون سوق السبايا، فأذابت القلوب القاسية والجبال الراسية» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 199

الطائفة الثانية: الندب إلي الاستغاثة بالمعصومين عليهم السلام … ص: 199

يا أولياء اللَّه، إن بيني وبين اللَّه عز وجل ذنوبا لا يأتي عليها إلا رضاكم، فبحق من ائتمنكم علي سره، واسترعاكم أمر خلقه، وقرن طاعتكم بطاعته لما استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي.

روي البيهقي في خبر صحيح: «إنه في أيام عمر جاء رجل إلي قبر النبي صلي الله عليه و آله فقال: يا محمد، استسق لأمتك فسقوا» «1».

روي الطبراني وابن المكري وأبو الشيخ، أنهم كانوا جياعا، فجاءوا إلي قبر النبي صلي الله عليه و آله فقالوا: «يا رسول اللَّه: الجوع، فاشبعوا» «2».

«صلاة الاستغاثة بالبتول» تصلي ركعتين، ثم تسجد وتقول: «يا فاطمة» مائة مرة، ثم تضع خدك الأيمن علي الأرض وقل مثل ذلك، وتضع خدك الأيسر علي الأرض وتقول مثله، ثم اسجد وقل ذلك مائة وعشر دفعات، وقل: «يا آمناً من كل شي ء، وكل شي ء منك خائف حذر، أسألك بأمنك من كل شي ء وخوف كل شي ء منك أن تصلي علي محمد وآل محمد وأن تعطيني أمانا لنفسي وأهلي ومالي وولدي حتي لا أخاف أحداً ولا أحذر من شي ء أبدا إنك علي كل شي ء قدير» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 200

«صلاة الغياث» عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا كانت لأحدكم استغاثة إلي اللَّه تعالي فليصل ركعتين ثم يسجد ويقول: «يا محمد، يا رسول اللَّه، يا علي، يا سيد المؤمنين والمؤمنات، بكما أستغيث إلي اللَّه تعالي، يا محمد يا علي، أستغيث بكما، يا غوثاه باللَّه وبمحمد وعلي وفاطمة- وتعد الأئمة- بكم أتوسل إلي اللَّه تعالي، فإنك تغاث من ساعتك إن شاء اللَّه تعالي»

«1».

ذكر الشيخ القمي في كتاب المفاتيح لهم عليهم السلام زيارة جامعة تشتمل علي الاستئذان، والظاهر أنه رحمه الله قد رواها عن بعض كتب الشيخ والسيد ابن طاووس، ونحن نوردها اعتمادا علي أمانته في النقل، قال (تغمده اللَّه برحمته) بعد أن ذكر بعض آداب الزيارة، وقل أيضا: «يا موالي، يا أبناء رسول اللَّه، عبدكم وابن أمتكم، الذليل بين أيديكم، والمضعف في علو قدركم، والمعترف بحقكم جاءكم مستجيرا بكم قاصدا إلي حرمكم، متقربا إلي مقامكم، متوسلا إلي اللَّه تعالي بكم، أأدخل يا موالي، أأدخل يا أولياء اللَّه، أأدخل يا ملائكة اللَّه المحدقين بهذا الحرم، المقيمين بهذا المشهد» «2».

حدثني محمد بن يعقوب، عمن حدثه، عن سهل بن زياد، عن محمد بن أورمة. وحدثني أبي، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن أورمة، عمن حدثه، عن الصادق وأبي الحسن الثالث عليه السلام، قال: تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام:

«السلام عليك يا ولي اللَّه، أنت أول مظلوم، وأول من غصب حقه، صبرت واحتسبت حتي أتاك اليقين، وأشهد أنك لقيت اللَّه وأنت شهيد، عذب اللَّه قاتلك بأنواع العذاب، وجدد عليه العذاب، جئتك عارفا بحقك، مستبصرا بشأنك، مواليا لأوليائك، معاديا لأعدائك ومن ظلمك، ألقي علي ذلك ربي إن شاء اللَّه تعالي، يا ولي اللَّه، إن لي ذنوبا كثيرة فاشفع لي إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 201

ربك» «1».

«يا أولياء اللَّه إن بيني وبين اللَّه عز وجل ذنوبا لا يأتي عليها إلا رضاكم، فبحق من ائتمنكم علي سره، واسترعاكم أمر خلقه، وقرن طاعتكم بطاعته لما استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي» «2».

محمد بن يعقوب الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن أورمة عمن حدثه عن الصادق وأبي الحسن الثالث

عليه السلام قال: تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام: «السلام عليك يا ولي اللَّه أنت أول مظلوم وأول من غصب حقه صبرت واحتسبت حتي أتاك اليقين، وأشهد أنك قد لقيت اللَّه وأنت شهيد، عذب اللَّه قاتلك بأنواع العذاب وجدد عليه العذاب، جئتك عارفا بحقك مستبصرا بشأنك معاديا لأعدائك ومن ظلمك، ألقي علي ذلك ربي إن شاء اللَّه، يا ولي اللَّه إن لي ذنوبا كثيرة فاشفع لي إلي ربك؟، فإن لك عند اللَّه مقاما محمودا وأن لك عند اللَّه جاها وشفاعة وقال اللَّه تعالي: ولا يشفعون إلا لمن ارتضي» «3».

جعفر بن محمد بن قولويه في الكامل: عن محمد بن جعفر الرزاز، عن محمد بن عيسي بن عبيد، عمن ذكره، عن أبي الحسن عليه السلام قال: تقول ببغداد: «السلام عليك يا ولي اللَّه، السلام عليك يا حجة اللَّه، السلام عليك يا نور اللَّه في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا للَّه في شأنه، أتيتك عارفا بحقك، معاديا لأعدائك، فاشفع لي عند ربك يا مولاي، قال: وادع اللَّه واسأل حاجتك، قال: وسلم بهذا علي أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام» «4». «مولاي يا حجة اللَّه، يا أمين اللَّه، يا ولي اللَّه، إن بيني وبين اللَّه ذنوبا قد أثقلت ظهري

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 202

ومنعتني من الرقاد، وذكرها يقلقل أحشائي، وقد هربت منها إلي اللَّه وإليك، فبحق من ائتمنك علي سره، واسترعاك أمر خلقه، وقرن طاعتك بطاعته، وموالاتك بموالاته، كن لي إلي اللَّه شفيعا، ومن النار مجيرا، وعلي الدهر ظهيرا، ثم انكب علي القبر وقل: يا حجة اللَّه، يا ولي اللَّه، يا باب حطة اللَّه، وليك وزائرك واللائذ بقبرك، والنازل بفنائك، والمنيخ رحله في جوارك، أسألك أن تشفع

لي إلي اللَّه في قضاء حاجتي، وانجح طلبتي في الدنيا والآخرة، فإن لك عند اللَّه الجاه العظيم والشفاعة المقبولة» «1».

أخبرنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتي النبي صلي الله عليه و آله فقال ادعُ اللَّه أن يعافيني، فقال: إن شئت أخرت ذاك فهو أعظم لأجرك، وأن شئت دعوت اللَّه، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلي الله عليه و آله نبي الرحمة يا محمد، إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم فشفعه في عثمان بن أبي العاص» «2».

وروينا في كتاب الترمذي «سنن الترمذي، كتاب الدعوات باب 119، ح 3578»، وابن ماجه «كتاب إقامة الصلاة، باب 189، ح 1385»، عن عثمان بن حنيف رضي اللَّه عنه، أن رجلا ضرير البصر أتي النبي صلي الله عليه و آله فقال: ادع اللَّه تعالي أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وأن شئت صبرت فهو خير لك» قال فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلي الله عليه و آله نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم فشفعه في؛ قال الترمذي: حديث حسن صحيح» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 203

الطائفة الثالثة: الندب الخاص بتوجه النداء إلي المعصومين عليهم السلام … ص: 203

اشارة

قال النبي صلي الله عليه و آله: «إنه حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء علي صفايح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الباب طنت وقالت: يا علي يا علي».

الندب الخاص بتوجه النداء إليهم بلفظ النداء وبذكرهم … ص: 203

فيما يلي مجموعة من الروايات:

من كتاب المناقب قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «إن للَّه عمودا من نور يضي لأهل الجنة كالشمس لأهل الدنيا لا يناله إلا علي وشيعته، وأن حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء طولها خمسون عاما، علي صفائح من ذهب إذا نقرت طنت وقالت في طنينها: يا علي» «1».

أقول: معناها طريق الجنة وشعارها يا علي.

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنه قال: «إن حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء علي صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الصفحة طنت وقالت: يا علي» «2».

روي السيد المرعشي في شرح إحقاق الحق عن مصادر العامة في أن طنين

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 204

باب الجنة يا علي يا علي قال: رواه القوم: منهم العلامة المولي محمد صالح الترمذي في «المناقب المرتضوية» (ص 85 و 223، ط بمبئي): روي من طريق الخطيب في «المناقب» قال النبي صلي الله عليه و آله: «إنه حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء علي صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الباب طنت وقالت: يا علي يا علي» «1».

ابن بابويه: قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد اللَّه بن الحسن المؤدب، عن أحمد بن علي الاصبهاني، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الثقفي، قال: حدثنا محمد بن داود الدينوري، قال: حدثنا منذر الشعراني، قال: حدثنا سعد بن زيد، حدثنا أبو قبيل، عن أبي الجارود رفعه إلي النبي صلي الله عليه و آله قال: «إن حلقة باب الجنة من

ياقوتة حمراء علي صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الصفحة طنت وقالت: يا علي» «2».

خصائص النطنزي، قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«علي بن أبي طالب حلقة معلقة بباب الجنة من تعلق بها دخل الجنة» «3».

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار: ج 1، ص 141: عن مسروق، قال:

دخلت علي عائشة فقالت لي: يا مسروق: إنك من أبر ولدي بي، وإني أسألك عن شي ء فأخبرني به. فقلت: سلي يا أماه عما شئت. قالت: المخدج من قتله؟ قلت:

علي بن أبي طالب عليه السلام. قالت: وأين قتله؟ قلت علي نهر يقال لأعلاه تامرا، ولأسفله النهروان بين أحافيف «أخافيق» وطرق. فقالت: لعن اللَّه فلانا، تعني عمرو بن العاص، فإنه أخبرني أنه قتله علي نيل مصر. قال مسروق: يا أماه، فإني أسألك بحق اللَّه وبحق رسوله وبحقي فإني ابنك، لما أخبرتني بما سمعت من رسول اللَّه فيهم.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 205

قالت: سمعته يقول فيهم «أهل النهروان»: «هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم إلي اللَّه وسيلة».

رواه ابن المغازلي في المناقب عن أحمد بن محمد بن عبد الوهاب بن طاوان، عن الحسين بن محمد العلوي، عن أحمد بن محمد الجواربي، عن أحمد ابن حازم، عن سهل بن عامر البجلي عن أبي خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت عائشة: يا مسروق إنك من ولدي، وإنك من أحبهم إلي، فهل عندك علم من المخدج؟ قال: قلت: نعم، قتله علي بن أبي طالب علي نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان، بين أحفاق وطرقاء قالت: إبغني علي ذلك بينة، فأتيتها بخمسين رجلا من كل خمسين بعشرة- وكان الناس إذ ذاك أخماسا-

يشهدون أن عليا عليه السلام قتله علي نهر يقال لأعلاه تأمرا ولأسفله النهروان بين أخفاق وطرقاء. فقلت: يا أماه، أسألك باللَّه وبحق رسول اللَّه وبحقي- فإني من ولدك- أي شي ء سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول فيه؟ قالت: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: هم شر الخلق والخليفة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم إلي اللَّه وسيلة. انتهي «1».

ورواه في شرح الأخبار: ج 2 ص 59.

ما رواه السيد الأجل علي بن طاووس رضي الله عنه في كشف المحجة، نقلا عن كتاب الرسائل للشيخ الأقدم محمد بن يعقوب الكليني رضي الله عنه عمن سماه قال: كتبت إلي أبي الحسن عليه السلام: إن الرجل يحب أن يفضي إلي إمامه ما يحب أن يفضي إلي ربه، قال:

فكتب عليه السلام «إن كان لك حاجة فحرك شفتيك فإن الجواب يأتيك» «2».

وفي البحار عن عدة الداعي، عن سلمان الفارسي قال: سمعت محمدا صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 206

يقول: إن اللَّه عز وجل يقول: «يا عبادي أوليس من له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم، تقضونها كرامة لشفيعهم، ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد صلي الله عليه و آله وأخوه علي ومن بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلي اللَّه، ألا فليدعني من أهمته حاجة يريد نفعها أو دهته داهية يريد كشف ضررها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن ما يقضيها من تستشفعون بأعز الخلق عليه» «1».

في البحار: ووجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي: نقلا من خط الشيخ الأجل علي بن السكون حدثنا الشيخ الأجل الفقيه سديد الدين أبو محمد عربي بن مسافر

العبادي أدام اللَّه تأييده، قراءة عليه، حدثنا الشيخ أبو عبد اللَّه الحسين بن أحمد بن محمد بن علي بن طحال المقدادي رحمه اللَّه بمشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه في الطرز الكبير الذي عند رأس الإمام عليه السلام في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة قال: حدثنا الشيخ الأجل السيد المفيد أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي رضي اللَّه عنه بالمشهد المذكور علي صاحبه أفضل السلام في الطرز المذكور في العشر الأواخر من ذي القعدة سنة تسع وخمسمائة، قال: حدثنا السيد السعيد الوالد أبو جعفر محمد بن الحسن، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الحسين البزاز قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيي القمي قال: حدثنا أبو عبد اللَّه محمد بن علي بن زنجويه القمي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد اللَّه بن جعفر الحميري قال أبو علي الحسن بن أشناس:

وأخبرنا أبو المفضل محمد بن عبداللَّه الشيباني أن أبا جعفر محمد بن عبد اللَّه بن جعفر الحميري أخبره وأجاز له جميع ما رواه، أنه خرج إليه توقيع من الناحية المقدسة حرسها اللَّه بعد المسائل التي سألها: والصلاة والتوجه أوله:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 207

«لا لأمر اللَّه تعقلون، ولا من أوليائه تقبلون، حكمة بالغة فما تغن الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، والسلام علينا وعلي عباد اللَّه الصالحين، فإذا أردتم التوجه بنا إلي اللَّه تعالي وإلينا، فقولوا كما قال اللَّه تعالي: سلام علي آل ياسين، ذلك هو الفضل المبين، واللَّه ذو الفضل العظيم، من يهديه صراطه المستقيم. التوجه: قد آتاكم اللَّه يا آل ياسين خلافته، وعلم مجاري أمره فيما قضاه ودبره ورتبه وأراده في ملكوته، فكشف لكم

الغطاء، وأنتم خزنته وشهداؤه وعلماؤه وأمناؤه، ساسة العباد، وأركان البلاد، وقضاة الأحكام، وأبواب الإيمان ومن تقديره منايح العطاء، بكم إنفاذه محتوما مقرونا فما شي ء منه إلا وأنتم له السبب، وإليه السبيل، خياره لوليكم نعمة، وانتقامه من عدوكم سخطة، فلا نجاة ولا مفزع إلا أنتم، ولا مذهب عنكم، يا أعين اللَّه الناظرة، وحملة معرفته، ومساكن توحيده في أرضه وسمائه، وأنت يا حجة اللَّه وبقيته كمال نعمته، ووارث أنبيائه وخلفائه، ما بلغناه من دهرنا، وصاحب الرجعة لوعد ربنا، التي فيها دولة الحق وفرحنا ونصر اللَّه لنا وعزنا. السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة، وعدا غير مكذوب. السلام عليك صاحب المرأي والمسمع، الذي بعين اللَّه مواثيقه، وبيد اللَّه عهوده، وبقدرة اللَّه سلطانه، أنت الحليم الذي لا تعجله العصبية والكريم الذي لا تبخله الحفيظة، والعالم الذي لا تجهله الحمية» «1».

حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «ما اجتمع في مجلس قوم لم يذكروا اللَّه عزّ وجلّ ولم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة، ثم قال: قال أبو جعفر 7: إن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 208

ذكرنا من ذكر اللَّه وذكر عدونا من ذكر الشيطان» «1».

في الاستيعاب لابن عبد البر: روي ابن عباس وأنس بن مالك أن عمر ابن الخطاب كان إذا قحط أهل المدينة استسقي بالعباس، قال أبو عمر: وكان سبب ذلك أن الأرض أجدبت إجدابا شديدا علي عهد عمر سنة سبع عشرة، فقال كعب: إن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا وأصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي صلي الله عليه

و آله وصنو أبيه وسيد بني هاشم، فمضي إليه عمر فشكي إليه ما فيه الناس ثم صعد المنبر ومعه العباس فقال: «اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين» «2».

عن أنس بن مالك أنهم كانوا إذا قحطوا علي عهد عمر خرج بالعباس فاستسقي به وقال اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا إذا قحطنا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.. وعن ابن عمر أن عمر خطب الناس وقال: «أيها الناس إن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان يري للعباس ما يري الولد لوالده يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول اللَّه صلي الله عليه و آله في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلي اللَّه عز وجل فيما نزل بكم» «3».

حديث حسن صحيح تفرد به الزبير بن بكار، خرجه الحافظ الدمشقي.

ثم قال: «يا أبا الفضل قم فأدعو اللَّه، فقام العباس يحمد اللَّه ويثني عليه ويدعو إلي أن قال: اللهم … وقد توجه القوم بي إليك فاسقنا الغيث.

قال: فأرخت السماء غزالها، وأخصبت الأرض فقال عمر: هذي واللَّه الوسيلة إلي اللَّه، والمكان منه» «4».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 209

الفتاوي الدينية … ص: 209

قال السيد الخوئي:

قول القائل: أدركنا يا علي لا مانع منه وهو يقصد التوسل به إلي اللَّه، وهل هناك مانع من قول الغريق أو الحريق ومن إليهما حين يستغيث بمن ينقذه فيقول: يا فلان أنقذني؟!

ملف الفتاوي الدينية

سؤال 1426: من الرسوم في هذه البلاد أن المؤمنين يستغيثون بالإمام الحجة عليه السلام بعد كل صلاة، ويقولون: يا صاحب الزمان يا ابن الحسن العسكري عجل علي ظهورك.

واستشكل عليهم بعض العلماء: بأن هذا ينافي عقيدة الشيعة، فإن الإمام لا يملك أمره، والدعاء لا بد أن يكون من

اللَّه، فهل يرد هذا الإشكال ويحرم مثل هذه الاستغاثة أم لا؟

الخوئي: الإشكال المذكور غير وارد، فإن الغرض من الجملة المذكورة الدعاء والالتماس منه عليه السلام بتعجيل ظهوره بطلبه عليه السلام من اللَّه تعالي ذلك، كما هو الحال في سائر الأدعية المشتملة علي طلب الحوائج من الأئمة الأطهار، فإن معني ذلك هو جعلهم: واسطة عند اللَّه تعالي، وقد ذكر مضمونه في ذيل دعاء العهد الوارد في

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 210

صباح أربعين يوما عن الصادق عليه السلام، واللَّه العالم. انتهي «1»

أقول: ويستقيم الطلب منهم عليهم السلام بداعي أن يمنحوا ما أقدرهم اللَّه عليه، وأذن لهم في إعطائه، وهذا معني الشفاعة التكوينية الذي مر بيانها في المطالب السابقة، وهو لا يعني استقلالهم لا ذاتا ولا فعلا فيما أقدروا عليه.

سؤال 1306: هل يجوز طلب الولد أو الرزق أو الحفظ والأمان إلي غير ذلك، من المعصومين عليهم السلام مباشرة، لا لأنهم يخلقون أو يرزقون وإنما لأنهم الوسيلة إلي اللَّه تعالي والشفعاء إليه بقضاء الحاجات، ولأنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذنه جل شأنه فهم يسألونه فيخلق ويسألونه فيرزق، ولا ترد لهم مسألة أو دعاء لمنزلتهم منه جل شأنه ولولايتهم علينا، وقد قال تعالي: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ» و «يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ»؟

الخوئي: لا بأس بذلك القصد. انتهي «2»

أقول: مر عدم الحصر بذلك الذي قد مر.

سؤال 1313: المتعارف حال النهوض أو القيام أو حال أي عمل الاستنجاد بالنبي صلي الله عليه و آله أو الإمام علي عليه السلام أو أحد الأئمة عليهم السلام، فهل يجوز ذلك عن قصد، علما أن الاعتقاد هو أنهم الباب إلي اللَّه تعالي؟

الخوئي: لا بأس بتوسيطهم والاستشفاع بهم إلي اللَّه تعالي كوسيلة في قضائه هو حوائج المتوسلين؛ لأنه تعالي

رغب في التوسل بقوله تعالي: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ». انتهي «3»

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 211

أقول: قد مر أن الأفعال والقدرات التي وكل بها الملائكة أو الأولياء عليهم السلام ليست معزولة عن قدرة اللَّه وفعله، بل قائمة به، فتسند مآلا إليه وإن كانت لها نسبة ملابسية إلي الموكلين، وهذه النسبة قائمة بالنسبة والإسناد إليه تعالي.

سؤال 993: ما معني العبارة الواردة في دعاء رجب اليومي: «لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك»؟

الخوئي: لعلها تشير إلي أنهم مع بلوغهم في مرتبة الكمال إلي حد نفوذ التصرف منهم في الكون بإذنك، فهم مقهورون لك؛ لأنهم مربوبون لك، لا حيلة لهم دون إرادتك ومشيتك فيهم بما تشاء. واللَّه العالم. انتهي «1»

أقول: ويمكن أن يفسر بأن ظهور اللَّه تعالي في كافة شؤونه بالآيات، والآيات علامات عليه، وصور يظهر بها، فرؤيتها رؤيته، إلا أنها مخلوقة له، فما تقدم من جوابه؟ بيان للتوحيد بالتوسل في مقام الفعل، وما ذكرناه بيان للتوحيد بالتوسل في مقام الصفات والذات.

سؤال 996: ما حكم قول: أدركنا يا علي، ويا أبا الغيث أغثنا وغير ذلك؟

الخوئي: قول القائل: أدركنا يا علي لا مانع منه وهو يقصد التوسل به إلي اللَّه، وهل هناك مانع من قول الغريق أو الحريق ومن إليهما حين يستغيث بمن ينقذه فيقول: يا فلان أنقذني؟! وهناك آية في القرآن الكريم تؤيد ذلك، وهي قوله تعالي:

«وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً». صدق اللَّه العلي العظيم.

التبريزي: يضاف إلي جوابه؟: ويزاد علي ذلك قوله تعالي: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ». انتهي «2»

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 212

أقول: هذا الجواب منه؟ يقرر أن التوسل قد يكون بمعني الطلب منهم فيما أقدرهم اللَّه عليه، وأذن لهم في

فعله.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 213

كلمات العلماء من الفريقين … ص: 213

قال العلامة الأميني:

هناك جماعة من الحفاظ وأعلام أهل السنة بسطوا القول في التوسل وقالوا: إن التوسل بالنبي جائز في كل حال قبل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته..

ملف كلمات العلماء من الفريقين

قال الأصفهاني:

يمكن أن يقال إن من جملة فوائد وجود الإمام عليه السلام ووظائفه وعاداته ومناصبه علي ما يظهر من الروايات إعانة الملهوفين، وإغاثة المستغيثين، بل لا ريب في أن أحدا من الناس إذا كان من رعية رئيس قادر مطاع وبغي عليه، دله أحبته إلي التظلم لدي ذلك الرئيس، ولو ترك ذمه العقلاء بتركه عرض حاجته عليه. انتهي «1»

أقول: يشير إلي أن نصب اللَّه تعالي للنبي وأهل بيته عليهم السلام ولاة علي الأمة، بنفسه يقتضي كونهم شفعاء ووسطاء ما بين اللَّه وخلقه، ألا تري إلي قوله تعالي: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» «2».

الدالة علي أن حساب الأمم لا يقام إلا بمجي رسول وإمام كل أمة.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 214

وكذلك قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلاء» «1».

وقوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا» «2».

فجعل النبي وأهل بيته عليهم السلام من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليه السلام أشهادا علي الناس، فأعمال العباد مرتهنة في العرض علي اللَّه تعالي بحججه من أنبيائه ورسله وأوصيائه.

قال الأميني:

وأما الاستغاثة والنداء والانقطاع وما أشار إليها، فلا تعدو أن تكون توسلا بهم إلي المولي سبحانه، واتخاذهم وسائل إلي نجح طلباتهم عنده جلت عظمته، لقربهم منه وزلفتهم إليه ومكانتهم عنده؛ لأنهم عباد مكرمون،

لا لأن لذواتهم القدسية دخلا في إنجاح المقاصد أولا وبالذات، لكنهم مجاري الفيض، وحلقات الوصل، ووسايط بين المولي وعبيده، كما هو الشأن في كل متقرب من عظيم يتوسل به إليه.

وهذا حكم عام للأولياء والصالحين جميعا وإن كانوا متفاوتين في مراحل القرب، كل هذا مع العقيدة الثابتة بأنه لا مؤثر في الوجود إلا اللَّه سبحانه، ولا تقع في المشاهد المقدسة كلها من وفود الزائرين إلا ما ذكرناه من التوسل، فأين هذه من مضادة التوحيد؟! انتهي «3»

أقول: قد مر أن التوسل هو الطريق الحصري للتوحيد، وليس الكلام في عدم المضادة وأصل المشروعية، بل في الضرورة واللابدية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 215

قال الأميني:

هناك جماعة من الحفاظ وأعلام أهل السنة بسطوا القول في التوسل وقالوا: إن التوسل بالنبي جائز في كل حال، قبل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة وجعلوه علي ثلاثة أنواع:

(1) طلب الحاجة من اللَّه تعالي به أو بجاهه أو لبركته، فقالوا: إن التوسل بهذا المعني جائز في جميع الأحوال المذكورة.

(2) التوسل به بمعني طلب الدعاء منه، وحكموا بأن ذلك جائز في الأحوال كلها.

(3) الطلب من النبي صلي الله عليه و آله ذلك الأمر المقصود، بمعني أنه صلي الله عليه و آله قادر علي التسبب فيه بسؤاله ربه وشفاعته إليه، فيعود إلي النوع الثاني في المعني غير أن العبارة مختلفة، وعدوا منه قول القائل للنبي صلي الله عليه و آله: أسألك مرافقتك في الجنة.

وقول عثمان ابن أبي العاص: شكوت إلي النبي صلي الله عليه و آله سوء حفظي للقرآن، فقال:

ادن مني يا عثمان، ثم وضع يده علي صدري وقال: اخرج يا شيطان من صدر عثمان، فما

سمعت بعد ذلك شيئا إلا حفظت.

وقال السبكي في «شفاء السقام»: والآثار في ذلك كثيرة أيضا، إلي أن قال: فلا عليك في تسميته توسلا، أو تشفعا، أو استغاثة، أو توجها «1».

قال العلامة الطباطبائي:

ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي وآله المعصومين صلوات اللَّه عليهم، ومسألته تعالي بحقهم، وزيارة قبورهم، وتقبيلها والتبرك

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 216

بتربتهم، وتعظيم آثارهم، من الشرك المنهي عنه وهو الشرك الوثني، محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالي وهو شرك، وأصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، وقولهم: إنما نعبدهم ليقربونا إلي اللَّه زلفي، ولا فرق في عبادة غير اللَّه سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا من الجبابرة أو غيرهم، فالجميع من الشرك المنهي عنه.

وقد فاتهم أولا: أن ثبوت التأثير سواء كان ماديا أو غير مادي في غيره تعالي ضروري لا سبيل إلي إنكاره، وقد أسند تعالي في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلي غيره، ونفي التأثير عن غيره تعالي مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية والمعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد، نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالي هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه، وأما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإنسانية، ومن يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم اللَّه في مثل قوله: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «1»

وقوله: «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي» «2»

، أو يسأل اللَّه بجاههم ويقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ

الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» «3»

وقوله: «انَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا» «4»

، أو يعظمهم ويظهر حبهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم بما أنهم آيات اللَّه وشعائره تمسكا بمثل قوله تعالي: «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 217

مَا يُتْلَي عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» «1»

، وآية القربي وغير ذلك من كتاب وسنة، فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلي اللَّه الوسيلة وقد قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ» «2»

فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم بما شرع من حبهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معني لا يجاب حب شي ء وتعظيمه وتحريم آثار ذلك، فلا مانع من التقرب إلي اللَّه بحبهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار، إذا كان علي وجه التوسل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتة.

وثانيا: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير اللَّه رجاء أن يشفع عند اللَّه أو يقرب إلي اللَّه، وبين أن يعبد اللَّه وحده مع الاستشفاع والتقرب بهم إليه، ففي الصورة الأولي إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالي، وهو الشرك في العبودية والعبادة، وفي الصورة الثانية يتمحض الاستقلال للَّه تعالي ويختص العبادة به وحده لا شريك له، وإنما ذم تعالي المشركين لقولهم: «إنما نعبدهم ليقربونا إلي اللَّه زلفي» حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون اللَّه سبحانه، ولو قالوا: إنما نعبد اللَّه وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسل إلي اللَّه بتعظيم شعائره وحب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنما يعبد بالتوجه إليها اللَّه.

وليت شعري ماذا

يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثني من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا ولا استثناء، أو أن ذلك من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 218

عبادة اللَّه محضا وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه علي وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم شعائر اللَّه وتعزير النبي صلي الله عليه و آله وحبه ومودته وحب أهل بيته ومودتهم وغير ذلك في محلها «1».

أقول: الظاهر أن تأليه المشركين للأصنام والأوثان لم يكن بزعم استقلال تلك الذوات في الوجود عن خلق الباري، ومن الظاهر حصرهم الخلق باللَّه كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» «2».

وإنما إشراكهم في استقلال المشركين بنصب وسائط بينهم وبين اللَّه غير مأذونين فيها، كما تشير إلي ذلك جملة من الآيات التي مرت، وبالتالي فعبودية المشركين للأصنام والأوثان منطلقة من تزلفهم وتعظيمهم لها بغير إذن وأمر من اللَّه، فأطاعوهم وقصدوهم بغير أمر من اللَّه وطاعته، فلم تكن عبودية للَّه بل طاعة وطوعانية وهي العبودية لغير اللَّه تعالي.

ومن ثم يؤكد القرآن في آيات عديدة كما أشارت إلي ذلك روايات أهل البيت أيضاً، إلي أن جملة العبادات لغير للَّه كانت في الطاعة لغير اللَّه، وطاعة غير من أمر اللَّه بطاعته، وتعظيم غير من أمر اللَّه بتعظيمه، والتوجه إلي غير من أمر اللَّه بالتوجه إليه، وهو معني اتخاذ المشركين إلي للأصنام الطينية والأوثان الحجرية، كذا هو معني اتخاذ الأصنام البشرية والأوثان من بني الإنسان، فالصنم والوثن البشري الذي قد تتخذه جماعة مناوئة للحق

هو بنصبهم من يطيعوه بغير أمر اللَّه، ومن يعظمه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 219

بغير إذن اللَّه بتعظيمه، وبأن يتوجهوا به إلي اللَّه مع إنه يصد عن سبيل اللَّه كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبانهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «1».

وكما يشير إلي ذلك قول الصادق عليه السلام في ذيل هذه الآية: «واللَّه ما سجدوا لهم وما ركعوا لهم، ولكن أطاعوهم» كيف لا وحقيقة العبودية هي الطاعة والطوعانية كاستحقاق للمطاع بذاته.

وكذا قوله تعالي: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّاتَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» «2».

إذ الطوعانية هي الخضوع والانقياد، فالعمدة في الفارق بين التوحيد والشرك، والتوحيد والصنمية هو ما مر، وفي الحقيقة إن القول باستحقاق الطاعة لمطاع لذاته يرجع إلي القول باستقلاله في الحول والقوة، وإلي افتقار العابد المطيع له في ذلك الحول والقوة والوجود.

فالطاعة بداعي الاستحقاق للذات وهي الشرك في الولاية تؤول إلي الشرك في الذات والشرك في الحكم، فالنكير في القرآن علي المشركين والوثنيين لا لأنهم يدعون استقلال ذوات الأصنام أو الأرواح المرسلة المرتبطة بها، ولا لزعمهم ضرورة أصل الوساطة والشفاعة بين الخلق والخالق، بل لكون اتخاذها لهم هو بغير اللَّه وإذنه.

ومن ثم فالوثنية والصنمية باقية ضمن أشكال بشرية، كما ورد مستفيضاً في روايات أهل البيت عليهم السلام: «أن من أطاع وتولي من لم يأمر اللَّه بطاعته وولايته فهو وثن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 220

يعبد من دون اللَّه» «1»

، وفي المقابل إن التوحيد يقام بطاعة وتولي المنصوبين من قبل اللَّه تعالي للطاعة، لكونهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 221

سئل آية

اللَّه التبريزي:

هل يجوز الاعتقاد بأن النبي والأئمة المعصومين عليهم السلام هم العلة الفاعلية والمادية، والصورية والغائية لجميع الخلائق؟ وهل يجوز إطلاق هذه الألفاظ عليهم؟ وما حكم من يعتقد ذلك؟.

قال في الجواب: إن خلق الدنيا ومن فيها، وكذا خلق الآخرة ومن فيها، وما فيها كله من فعل اللَّه عز وجل ومشيئته، وبما أن اللَّه سبحانه وتعالي حكيم لا يخلق شيئا عبثا، فالغرض من خلق الدنيا وما فيها هو أن يعرف الناس ربهم، ويصلوا إلي كمالاتهم، بإطاعة اللَّه سبحانه وتعالي، والتقرب إليه، وهذا يقتضي اللطف من اللَّه بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأوصياء والأئمة عليهم السلام ليأخذ الناس منهم سبيل الاهتداء، وبما أن الحكمة هي ما ذكر في الخلق حيث يفصح عنه قوله تعالي:

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» وبضميمة قوله سبحانه: «خَلَقَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» يعلم أن الغاية من خلق الإنس والجن هي خلق الذين يعرفون اللَّه سبحانه ويعبدونه، ويهتدون بالهدي، والسابقون علي ذلك في علم اللَّه سبحانه الذين يعيشون في الدنيا وسيلة لكسب رضا ربهم، والتفاني في رضاه هم الأنبياء والأوصياء والأئمة «سلام اللَّه عليهم أجمعين» والسابقون في هذه المرتبة هم نبينا محمد والأئمة الأطهار «صلي اللَّه عليهم أجمعين» من بعده.

وبذلك يصح القول أنهم علة غائية لخلق العباد، لا بمعني أن الخالق يحتاج إلي الغاية، بل لأن إفاضة فيض الوجود بسبب ما سبق في علمه أنهم السابقون الكاملون في الغرض والغاية من الفيض، واللَّه العالم «1».

أقول: تقدير كونهم عليهم السلام علة غائية يستلزم كونهم علة فاعلية كما هو مقرر في علوم الحكمة، إلا أن الصحيح إنهم علة غائية في الفعل، وهي ليست علة غائية نهائية، بل العلة

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 222

الغائية النهائية هي

اللَّه تعالي فليس وراء اللَّه تعالي منتهي، كما إنه تعالي العلة الفاعلية الأولي فمنه ينشأ الوجود وإليه يعود ويتقوم، وهم وسائط فيضه والشهداء علي خلقه في المعاد.

قال القسطلاني في (المواهب اللدنية):

وينبغي للزائر له صلي الله عليه و آله أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به صلي الله عليه و آله فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللَّه فيه. قال: وأن الاستغاثة هي طلب الغوث فالمستغيث بطلب من المستغاث به إغاثته أن يحصل له الغوث، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التوجه أو التجوه؛ لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناهما علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بصاحب الجاه إلي من هو أعلي منه.

قال: ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله كما ذكره في تحقيق النصرة ومصباح الظلام واقع في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة.

ثم فصل ما وقع من التوسل والاستشفاع به صلي الله عليه و آله في الحالات المذكورة «1».

قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار: ج 6 ص 716:

نعم ذكر العلامة المناوي في حديث: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، عن العز بن عبد السلام أنه ينبغي كونه مقصورا علي النبي صلي الله عليه و آله، وأن لا يقسم علي اللَّه بغيره، وأن يكون من خصائصه «2».

أقول: القسم علي اللَّه ليس تحتيم شي ء علي إرادة اللَّه تعالي؛ لأن اللَّه تعالي لا يبرمه إلحاح الملحين، وإنما القسم علي اللَّه تعالي يرجع إلي استجارة من يقسم بالمقسم به لما

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 223

للمقسم به من حرمة عند

اللَّه تعالي، فيلوذ به بما له من حرمة وجاه عند اللَّه من نعمة اللَّه وسخطه، أو لاستنزال رزقه فهو نوع تشفع بالمقسم به وتوجهاً به علي المقسوم عليه، وعلي ذلك فيعم القسم الذي هو نوع استشفاع وتوسل كل من له جاه وحظوة عند اللَّه تعالي وإن كانت مراتب المقسوم به مختلفة في الشفاعة والوسيلة.

قال الشربيني في مغني المحتاج: ج 1 ص 184 خاتمة:

سئل الشيخ عز الدين هل يكره أن يسأل اللَّه بعظيم من خلقه كالنبي والملك والولي عليه السلام فأجاب بأنه جاء عن النبي صلي الله عليه و آله أنه علم بعض الناس: اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة الخ.

فإن صح فينبغي أن يكون مقصورا عليه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه سيد ولد آدم، ولا يقسم علي اللَّه بغيره من الأنبياء والملائكة؛ لأنهم ليسوا في درجته، ويكون هذا من خواصه، والمشهور أنه لا يكره شي ء من ذلك «1».

نقل ابن كثير في البداية ج 1 ص 45:

أن ابن تيمية أقر أخيرا في المجلس الذي عقده له العلماء العاملون الربانيون المجاهدون بالتوسل وأصر علي إنكار الاستغاثة، مع أنه يقول في رسالة خاصة له في الاستغاثة بجوازها بالنبي فيما يقدر عليه المخلوق.

واعتمد الإمام الحافظ النووي استحباب التوسل والاستغاثة في مصنفاته، كما في حاشية الإيضاح علي المناسك له (ص 450) و (ص 498) من طبعة أخري، وفي شرح المهذب المجموع (8، 274) وفي الأذكار (ص 307) من طبعة دار الفكر، في كتاب أذكار الحج، وص (184) من طبعة المكتبة العلمية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 224

وهو مذهب الشافعية وغيرهم من الأئمة المرضيين المجمع علي جلالتهم «1».

أقول: قد مر مراراً أن التوسل والاستغاثة والتوجه والاستشفاع والسؤال كلها من باب واحد وحقيقة

واحدة، ذات حيثيات ووجوه متلازمة، فتسويغ أحدها ومنع الأخري، أو حسبان تباينها ناجم من عدم درك معانيها بغور وعمق ودرجات وأنواع كل منها، وأما تسويغ بن تيمية الاستغاثة بما يقدر عليه المخلوق فقد عرفت أن جملة الأشياء المخلوقة والتي تسأل للداعي هي ذات نسبة إلي الذوات المخلوقة التي هي مجري الفيض الإلهي المتقوم بتلك النسبة بالإسناد والنسبة إلي الذات الإلهية استمدادا وإيجاداً باعتبار أنه منشأ الوجود.

وقد ذكر القرآن الكريم أفعال كونية مهولة أسندها إلي الملائكة الكرام من دون أن يعني ذلك عزل القدرة الإلهية أو عدم التقوم بها بالحول والقوة والقدرة الإلهية.

قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد استعراضه أطراف بحث التوسل وآراء العلماء فيه:

وبعد هذا كله أنا لا أري بأسا في التوسل إلي اللَّه تعالي بجاه النبي صلي الله عليه و آله عند اللَّه تعالي حيا وميتا ويراد من الجاه معني يرجع إلي صفة من صفاته تعالي، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معني قول القائل:

إلهي أتوسل بجاه نبيك صلي الله عليه و آله أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي.

ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا.

بل لا أري بأسا أيضا بالإقسام علي اللَّه تعالي بجاهه صلي الله عليه و آله بهذا المعني والكلام

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 225

في الحرمة كالكلام في الجاه..

وقال: إن التوسل بجاه غير النبي صلي الله عليه و آله لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند اللَّه تعالي، كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا

يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني علي اللَّه تعالي بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه وفي ذلك جرأة عظيمة علي اللَّه تعالي «1». انتهي «2»

أقول: تعليقا علي كلام بن تيمية والآلوسي:

ما ذكره بن تيمية ثلاثة أقسام:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 226

القسم الأول: التوسل بإيمان الشخص بالنبي ومحبته له.

القسم الثاني: التوسل بدعاءِ النبي و شفاعته.

القسم الثالث: التوسل بذات النبي الشريفة.

وأضاف الآلوسي قسماً رابعاً، وهو التوسل بجاه النبي صلي الله عليه و آله عند اللَّه حياً وميتاً بما يرجع إلي صفة إلهية، أي إن محبة اللَّه ورحمته لنبيه.

وليت شعري كيف يعظم الإيمان بالنبي صلي الله عليه و آله ويجعل وسيلة دون ذات النبي، مع أن الإيمان لم يكن إيماناً إلا بتعلقه بذات النبي، فهو أصل الإيمان وقوامه، إلا أن يكون الإيمان باللَّه أعظم من الذات الإلهية، مع أن الإيمان لم يحظ بشرف إلا بلحاظ متعلقة وهو النبي صلي الله عليه و آله، فلماذا كل هذه الحساسية والنفرة من سيد الأنبياء.

وكذلك الحال في التوسل بدعاء وطلب النبي وشفاعته، وهل دعاء النبي صلي الله عليه و آله وشفاعته الذي هو عمل من الأعمال الصادرة من ذات النبي صلي الله عليه و آله أعظم من ذات النبي صلي الله عليه و آله المقدسة، كذلك يجري الكلام في كلام الآلوسي، فهل جاه النبي غير ذاته المقدسة.

ثم ما الفرق بين رحمة اللَّه ومحبة اللَّه في القسم الرابع التي هي من أفعال اللَّه تعالي وبين ذات النبي صلي الله عليه و آله التي هي أيضا من أفعال اللَّه تعالي، بل ذاته؟ هي عين فعل الرحمة الإلهية، كما أشار إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» «1».

فكيف يفرق بين صفات اللَّه

الفعلية وبين ذات النبي صلي الله عليه و آله مع أن المآل واحد، وكأنما التوجه إلي ذات النبي صلي الله عليه و آله والتوسل بها مقطوعة الإضافة عندهم عن اللَّه تعالي مع أنه صلي الله عليه و آله أقرب الخلق للَّه، وهو وسيلة الوسائل.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 227

فيقدمون ويتوجهون إلي اللَّه بما هو أقل منزلة، ويجفون ما هو أكبر منزلة وأوجه مقاما عند اللَّه تعالي، أو يحسبون أن الصفات الفعلية هي غير فعله تعالي ومغايرة للذوات الشريفة المخلوقة.

قال التاج السبكي:

ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلي الله عليه و آله إلي ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتي جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثلة. انتهي «1»

قال المفسر الشعراوي:

التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله أو الأولياء مسألة لا يصح أن تكون مثار خلاف من أحد …

ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي: هذبوا هذا القول قليلا، إن حدوث مثل هذا القول هو نتيجة عدم الفهم، فالذي يتوسل إلي اللَّه بالنبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند اللَّه.

وهل يعتقد أحد أن الولي يجامله ليعطيه ما ليس له عند اللَّه صلي الله عليه و آله طبعا لا.

وهناك من قال: إن الوسيلة بالأحياء ممكنة، وأن الوسيلة بالأموات ممنوعة، ونقول له: أنت تضيق أمرا متسعا؛ لأن حياة الحي لا مدخل لها بالتوسل، فإن جاء التوسل بحضرته صلي الله عليه و آله إلي اللَّه، فإنك قد جعلت التوسل

بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلي اللَّه، فحبك له هو الذي يشفع، وإياك أن تظن أنه سيأتي لك بما لا تستحق «2».

أقول: قد مر أن التشفع بذات النبي

وحبه والإيمان به، إنما صار له جزاء موفوراً

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 228

وعملًا شريفاً باعتبار تعلقه بذات النبي صلي الله عليه و آله فكيف لا يحتفي بما هو أصل في الشفاعة ويتمسك بما هو فرع. انتهي

ثم يقول الشعراوي: والجماعة التي تقول: لا يصح أن نتوسل بالنبي صلي الله عليه و آله؛ لأن النبي انتقل إلي الرفيق الأعلي، نقول لهم: انتظروا قليلا وانتبهوا إلي ما قال سيدنا عمر، قال: كنا في عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إذا امتنع المطر نتوسل برسول اللَّه ونستسقي به، ولما انتقل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله توسل بعمه العباس، وقالوا: لو كان التوسل برسول اللَّه جائز بعد انتقاله لما عدل عمر بن الخطاب عن التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله بعد انتقاله، وذهب إلي التوسل بعم النبي صلي الله عليه و آله؟

ونسأل أقال عمر: «كنا نتوسل بنبيك والآن نتوسل إليك بالعباس 7 أم قال: والآن نتوسل إليك بعم نبيك» «1»؟!

أقول: ونعم ما تفطن إليه بأن وجاهة العباس ابن عبد المطلب بإضافته إلي شرفية ذات النبي صلي الله عليه و آله المقدسة فالتوسل راجع إلي تلك الإضافة. انتهي

ثم يقول الشعراوي: ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة علي أنفسهم؛ لأن التوسل لا يكون بالنبي صلي الله عليه و آله فقط، ولكن التوسل أيضا بمن يمت بصلة إلي النبي صلي الله عليه و آله، فساعة يتوسل واحد إلي غيره يعني أنه يعتقد أن الذي توسل به لا يقدر علي شي ء، إنني أتوسل به إلي الغير لأني أعرف أنه لا يستطيع أن ينفذ إلي مطلوبي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 229

إذن فلنبعد مسألة الشرك باللَّه عن هذا المجال، ونقول: نحن نتوسل به

إلي غيره لأننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز.

وهذا هو منتهي اليقين ومنتهي الإيمان.

ولكن المتوسل به قد ينتفع وقد لا ينتفع، وعندما توسل سيدنا عمر بالعباس عم النبي كان يفعل ذلك من أجل المطر، والمطر في هذه الحالة لا ينتفع به رسول اللَّه، لذلك جاء بواحد من آل البيت وكأنه قال: «يا رب عم نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر».

فإذن فتوسل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد الانتقال إلي لرفيق الأعلي. انتهي «1»

أقول: قد عرفت أن التوسل هو طريق التوحيد القويم الحصري، وأن الصد عنه يؤل إلي التشبيه أو التعطيل وهو الشرك بعينه. انتهي

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.